ثمّةَ مَن يعتقد أنّ الحرب التي تشنّها إسرائيل منذ العاشر من رمضان على غزّة لن تتوقف قبل مؤتمر دولي مشابه لذلك الذي انعقد في جنيف عام 1973 بعد حرب تشرين التي شنَّتها إسرائيل ضد العرب في العاشر من رمضان أيضاً.
في جلسةٍ ضمّت عدداً من المواطنين الذين ينتظرون كعادتهم خطاب الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله، فوجئ الجميع بظهور السيّد شخصياً، فقال أحدهم: «يبدو أنّ السيّد لن يلقيَ كلمة طويلة هذه المرّة». فأجابه الآخر: «على العكس من ذلك تماماً، فمَن يعرف مكانَة غزّة في وجدان سماحة السيّد يعرف أنّ يوم الاحتفاء بها هو من المناسبات التي يحرص فيها السيّد أن يخرج عن المألوف الأمني، مثلما فعلَ في ذكرى عاشوراء، متحدّياً تهديدات الإرهابيين، ومثلما فعل يوم عرض الفيلم المسيء للرسول قبل عامين.ثم إنّ السيّد ومستشاريه الامنيين يدركون جيّداً أنّ آخر ما يمكن ان تفكّر فيه حكومة تل ابيب وجنرالاتها هو ارتكاب حماقة أمنية ضد قائد المقاومة في لبنان». وأضاف: «إنّ الاسرائيليين يحاربون في غزّة، ولكنّ عيونهم وقلوبهم ومخاوفهم مشدودة الى الجبهة الشمالية التي إذا فُتِحت فإنّ شيئاً كبيراً من دولتِهم سينهار».
هذا الحوار الذي دار بين مواطنين بُسَطاء في لبنان، حصل مثله بالتأكيد في المجالس الوزارية والعسكرية الاسرائيلية التي تلقّت خبرَ ظهور السيّد نصرالله شخصياً في مهرجان «يوم القدس العالمي»، ولعلّ أهل هذه المجالس كانوا يتابعون كلامَه حرفاً حرفاً لعلّهم يستشفّون بين السطور ما يوحي بأيّ خطوة سيُقدِم حزب الله عليها انتصاراً للفلسطينيين الذين يتعرّضون لأقسى المجازر على يد الجيش الاسرائيلي.
ويعتقد محللون متخصّصون بالشؤون الإسرائيلية أنّ الكلمة التي توقّف عندها أهل القرار الإسرائيليون، هي قول السيّد نصرالله «إنّنا سنقوم بما يتوجّب علينا»، وهي كلمة تحمل كثيراً من الإيحاءات، خصوصاً حين تصدُر عن رجل لا يلقي الكلمات جزافاً، وخطاباته غالباً ما تكون محسوبة بدقّة، اعتقاداً منه أنّ أحد اسلحة المقاومة في حربها النفسية مع اسرائيل هي الصدقيّة التي تجعل ملايين الإسرائيليين يتابعون خطبَ نصرالله مثلما يتابعها اللبنانيون والعرب والمسلمون، وبالتأكيد يتابعونها أكثر ممّا يتعابعون خطبَ المسؤولين الاسرائيليين أنفسهم، الذين ما وقعوا يوماً في تناقضات في تصريحاتهم مثلما يقعون هذه الأيام.
فأهداف حربهم تتغيّر بين يوم وآخر، ومواعيد هذه الحرب أيضاً تختلف من مسؤول الى آخر، ولعلّ أطرفَها ما وعد به وزير الدفاع الأحد الماضي حين قال: «إنّ مسألة السيطرة على الأنفاق لا تحتاج إلّا الى يومين أو ثلاثة، فها هي الايام تمرّ ولم تستطع كاميرات الجيش الذي لا يُقهر من تصوير نفق واحد تمَّت السيطرة عليه، كذلك لم تستطِع هذه الكاميرا تصوير تدمير صاروخ واحد من صواريخ المقاومة بفعل «القبّة الحديد» التي ليس بعيداً اليوم الذي سيقف مسؤول اسرائيلي ليعلنَ فشلها في تجنّب الصواريخ الفلسطينية.
ويضيف هؤلاء المحللون أنّ تل ابيب تشهد سقوطاً مريعاً لسمعتها الأخلاقية في العالم، حتى إنّ وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس نفسه، وهو المعروف بميوله الإسرائيلية، لم يستطع تحمّل الوحشية الاسرائيلية ضد أهل غزّة، فيما حذّر وزير خارجية بريطانيا الجديد حكومة تل ابيب من مغبّة انقلاب الرأي العام الدولي ضدّها.
ولعلّ المفارقة الأكبر أنّ وزير الخارجية الاميركية جون كيري نفسه الذي جاء على عجَل لإنقاذ تل ابيب من ورطتها في غزة فوجئ برفض المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغّر مشروعَه الهادف الى وقف إطلاق النار، وهو رفضٌ سيؤدّي الى تفاقم الورطة السياسية الاسرائيلية بعد تفاقم ورطتِهم العسكرية، خصوصاً مع تزايد الخسائر في صفوف جنودهم ومع تصاعد الانتفاضة في القدس ومدنِ الضفّة الغربية، بما هو اكثر من انتفاضة وأقلّ من حرب، كما وصفها أحد الكتّاب العرب.
من هنا بدا على مُحيّا «السيّد» ألمٌ وحُزن ممزوجان بثقة عارمة بالنفس: الحزن والألم على أطفال غزة الذين باتوا بنكَ الأهداف الوحيد لدى الجيش الاسرائيلي. أمّا الثقة بالنفس فمصدرها الصمود الشعبي والميداني في غزة وعموم فلسطين أوّلاً، وانتصار النهج الذي اختطّته المقاومة في جنوب لبنان وتوّجَته بإحباط أهداف العدوان الاسرائيلي في مثل هذه الأيام عام 2006.
وبالإضافة الى هذا كلّه، فإنّ ما يُقلق الاسرائيليين أيضاً هو حديثٌ للسيّد نصرالله عن دعمه الفصائل الفلسطينية كلّها بلا استثناء وإخضاع أيّ خلافات أو حساسيات لمصلحة النزاع الرئيسي مع العدوّ، وهو ما يعني تجسير الفجوة مع حركة «حماس» التي راهنَ الاسرائيليون وغيرُهم كثيراً على تعميقها لشَقّ وحدة الصفّ المقاوم وللإيحاء بأنّ النزاع المذهبي الحاد لم يوفّر حتى جبهة المقاومة من تداعياته.
وأمام هذه المعطيات كلّها، بدا خطاب السيّد نصرالله لدى جميع المتابعين في تل ابيب وواشنطن والعواصم العربية أنّه جولة جديدة في هذه الحرب التي تتكامل فيها الحرب العسكرية مع الحرب السياسية والحرب المعنوية، فإذا كان هذا الخطاب انخراطاً كاملاً في الحربين السياسية والنفسية، فإنّ الإنخراط في الحرب العسكرية لن يكون بعيداً إذا شعرَت المقاومة في لبنان أنّ ذلك أمرٌ يتوجّب القيام به.
ولكن حتى الساعة لا يبدو أنّ المقاومة في فلسطين تحتاج الى هذا الانخراط، فهي تقوم بواجبها العسكري على الأرض بأفضل ما يرام، وتتمدّد في كلّ الارض الفلسطينية المحتلة، ما يجعل البعض يعتقد أنّ هذه الحرب التي بدأت في العاشر من رمضان لن تتوقف قبل مؤتمر دولي ينعقد، على غرار مؤتمر جنيف عام 1973 وبعد حربٍ بدأت أيضاً في العاشر من رمضان.
فـ«الجنرال رمضان» يبدو أنّه كثيراً ما يتدخّل لينصرَ الفلسطينيين والعرب، كما فعل يوماً «الجنرال ثلج» في مساعدة الاتّحاد السوفياتي على وقف الزحف الهتلري النازي إلى روسيا، ومن ثمّ التحوّل الى هجوم مضاد تسبّب في سقوط الرايخ الالماني في برلين نفسها.