في المعيار السياسي الظاهر، لا مبرّر موضوعياً لحرب إسرائيل على غزة. فهي تُدمّر البنى العسكرية لحركة «حماس»، بل تُدمّر القطاع بأسره. وهذا شبيه بحرب تموز 2006، حين دمّرت إسرائيل لبنان لا «حزب الله». والأرجح أنّ «حماس» لن تنتهي بهذه الضربة، بل ستعود أقوى بعدها، كما «حزب الله». إذاً... لماذا الحرب الإسرائيلية؟
يجدر أوّلاً التفتيش عَمّن افتعل الشرارة التي أدّت إلى اندلاع القتال. فعملية خطف الإسرائيليّين الثلاثة تبقى غامضة. وكذلك، لا يُعرف تماماً من هي الجهة التي توَلّت تصفيتهم. ولكن، كما يبدو، لم يكن ذلك قراراً رسمياً مركزياً لـ»حماس».وقيل إنّ مجموعة ربما تنتمي إلى «الجهاد الإسلامي» أو أحد أجنحة «حماس» هي التي قامت بذلك. لكنّ حركة «حماس» سارعت الى الانزلاق في المواجهة. فالجهات التي تقف وراء الذين افتعلوا الشرارة تُدرك طبيعة الردّ «الحماسي» في ظروف مماثلة. وفي تعبير أكثر وضوحاً: تمّ استدراج «حماس» إلى حرب لا تُلائمها في التوقيت، ولا تُلائم الفلسطينيين عموماً.
والواضح أنّ تحوّلات ومحطات سياسية تتحكّم باللحظة التي اختيرت فيها الحرب الإسرائيلية على غزة، وأبرزها اثنتان:
1 - وصول المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، من خلال وزير الخارجية الأميركي جون كيري، إلى طريق مسدود. فالجانب الفلسطيني، مدعوماً بالسعودية وقوى عربية، رفض الاقتراحات التي يحملها كيري من إسرائيل، والتي ترمي إلى إحباط أيّ فرصة لقيام دولة فلسطينية مستقلة، وتكريس قيام كيانات فلسطينية في الضفة وغزة وربما في الأردن، وإنهاء الحق في العودة وتوطين الفلسطينيين في بلدان الشتات.
2 - بلوغ «الربيع العربي» مراحل متقدمة لجهة ظهور الملامح الأولى للفرز في كيانات الشرق الأوسط، بعد انهيار الأنظمة، بدءاً بالعراق وسوريا. ويتيح نموّ التيارات الإسلامية السلفية والجهادية، سنّية وشيعية، على حساب الاتجاهات القومية والوطنية التقليدية، إسقاط الروح الوطنية الفلسطينية لمصلحة الروح الدينية.
وهذا ما يخدم أهداف إسرائيل النهائية في يهودية الدولة وربما تهجير فلسطينيّي 1948 إلى كيانات أخرى يُحَضّر لاستيلادها. لذلك، يمكن التوقف عند توقيت الضربة الإسرائيلية لغزة عقب التوافق الإستثنائي بين «فتح» و»حماس» على الحكومة الجديدة، والذي كان يطمح الجانبان إلى أن يشكّل ركيزة لإعادة التلاحم بين الضفة الغربية وغزة.
واليوم، يُمعن الإسرائيليون في اللعب على الحبال الفلسطينية من خلال الإيحاء بأنهم أعداء لـ»حماس» فقط، وليس لسواها، وأنهم معنيّون بالحرب على غزة وليس على الضفة. وهذه خلاصة الخبث السياسي، لأنها تنطوي على حملة مبطّنة لتصوير غزة وكأنها كيان مستقلّ عن الضفة ولا علاقة له بها. والإعلام العالمي يُركّز على هذه الفكرة. وكالمعتاد، يسقط العرب في الفخّ أيضاً.
ويعتقد محلّلون أنّ فشل الوساطة المصرية، وخلافاً للمواقف الظاهرة، يخدم مصلحة إسرائيل التي يناسبها إنجاح وساطات أخرى، قَطرية أو تركية، لتُكرِّس الترابط بين غزة والمحور الإقليمي الداعم للقوى المتطرفة، في موازاة الترابط القائم بين الضفة والمحور السعودي- المصري المعتدل.
ففي ظلّ هذا الاختلاف، يتكرّس الفرز بين الضفة وغزة. وخلافاً لِما يعتقد البعض، لا مصلحة للإسرائيليين في إنهاء «حماس»، بل في إضعاف غزة وقطع أواصر الحكومة الوليدة.
فالحرب على غزة هي في أحد الأشكال حربٌ على حكومة الوحدة الفلسطينية، بل على الوحدة في ذاتها. وهي لذلك، ليست تكراراً للحروب السابقة، بل تأتي في ظل معطيات نضجت، وترمي إلى تحقيق غايات جديدة.
إنها عملية استفراد إسرائيلية بفلسطين لتقسيمها تحت الإحتلال، ولتصفية القضية، بعدما أينَعت «رؤوس عربية وحان قطافها». ويطمئنّ الإسرائيليون إلى صمت العرب الغارقين في نزاعاتهم، وصَمت المجتمع الدولي الذي اعتاد السكوت عن الجرائم المرتكبة داخل كيانات عربية عدة.
وباستثناء بعض الاستعراضات العربية الساذجة، لا حراك لإنقاذ فلسطين يظهر في الجسد العربي الميت، والذي تقوده رؤوس غارقة في الأخطاء والخطايا بحقّ شعوبها... بما يتجاوز الخطايا الإسرائيلية بحقّ الشعب الفلسطيني.