يجدر بنا تجديد الوعي بفقه الصيام من فقه يسهب في تعداد المفطرات المنصوص عليها لصحة صيام الجسد إلى فقه يفتح صوم المعدة على وجوب صيام الأذن والعين واليد واللسان وإذا كان الصوم بمعناه اللغوي والاصطلاحي يقودنا إلى مفهوم واحد هو الامتناع عن المباح والحلال فمعنى
ذلك أن فلسفة الصوم إنما تهدف إلى تصليب إرادة الصائم وتربيته على امتلاك قدرة الامتناع المقدس عن الحرام. ومن أعظم الحرام الظلم والقتل والبغي والفتنة والبهتان وسواها من المخالب التي تفتك بالوحدة والسلام.
إن دعوة القرآن الكريم في شهر القرآن وفي غيره من الشهور إلى وحدة المجتمع الصائم لا يجدر أن نقتصر في فهمها على أنها مجرد دعوة نظرية إلى السلام بين البشر، لأن السلام ليس منفصلاً عن غايات القرآن السامية التي تمكن المجتمع الإنساني من تحقيق معنى وجوده على هذه الأرض المذعورة والتي ما انفكت على لسان أبنائها الأحرار تنشد وحدتها الضائعة بشرط السلام المشروط قرآنياً بسلام الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع أخيه الإنسان، وهو سلام ينبض في قلب المؤمن كنبضة الإيمان في صومه وصلاته وفق رؤية تربوية ترى في اختبارات الصيام وسيلة وميداناً لاجتراح معجزة الوحدة الإنسانية الكبرى بوضع فاصلة جوهرية بين مفهوم الخصومة ومفهوم العداوة فليس كل خصم هو العدو وليس كل عدو هو الذي يعتدي عليك من خارج ذاتك، فربما كان العدو في داخلك هو نفسك الأمارة بالسوء أو نفسك المنغلقة على هواها فلا ترى في التنوع والاختلاف بين الناس إلا مصدراً من مصادر التنازع والاحتراب.. لذلك كانت عبادة الصوم دافعاً إلى وعي تجلياته في الفكر والاجتماع في مشهد يبني السلام على أفق مفتوح للوحدة المخضوضرة بغذائها الروحي والثقافي لنقل المجتمعات البشرية من واقع الفتن والانقسام والحروب إلى واقع الوحدة التي لن يكتب لها الاستمرار والبقاء إلا إذا كانت محصنة بوحدة التقوى وتقوى السلام.
وهذه التقوى التي توجت آيات الصوم في فلسفته ورسالته هي الضامن الوحيد لجمال الوحدة وكمالها فلا ترى في مجتمع الصائمين كاذباً، أو ظالماً، أو سفيهاً، أو غادراً، أو متواكلاً، فيما يرويه الإمام جعفر بن محمد الصادق بقوله: «إن الصيام ليس من الطعام والشراب لوحده، إنما للصيام شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم، وهو الصمت الداخلي . أما تسمع قول (مريم بنت عمران): ]إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيّاً[ (مريم:26)، يعني صمتاً! فإذا صمتم فاحفظوا ألسنتكم عن الكذب، وغضوا أبصاركم، ولا تنازعوا، ولا تحاسدوا، ولا تغتابوا، ولا تماروا، ولا تكذبوا، ولا تباشروا، ولا تخالفوا، ولا تغاضبوا، ولا تشادوا، ولا تشاتموا، ولا تنابزوا، ولا تجادلوا، ولا تظلموا، ولا تسافهوا، ولا تزاجروا، ولا تغفلوا عن ذكر الله، وعن الصلاة، والزموا الصمت، والسكوت، والحلم، والصبر، والصدق، ومجانبة أهل الشر، واجتنبوا قول الزور والكذب، والإغراء، والخصومة، وظن السوء، والغيبة، والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة لأيامكم، منتظرين لما وعدكم الله، متزودين للقاء الله، وعليكم السكينة، والوقار، والخشوع».
إن هذا النص المروي عن الإمام الصادق ، يولي اهتماماً كبيراً لطهارة النفس واستقامة السلوك، داخل الواقع الاجتماعي، الذي يحرص على وشائج القربى الإنسانية بين الناس، ويصون مكونات الوحدة من داخل الممارسة، لنخلص إلى العلاقة الجدلية بين القرآن، والصوم، والجهاد، التي تستند إلى معيار واحد، هو طهارة النفس.
ولسنا بحاجة في هذا المجال لفهم عوامل الهزيمة، التي مني بها المسلمون عبر حروب طويلة إذا تلمسنا المسارب التي دخل منها الغزاة إلى نفوسهم وعقولهم، قبل أن تتاح لهم السيطرة على الأرض، ومنابع الثروة والقوة.
وبذلك نعي أن الذين يصومون ويصلّون بمعزل عن هذا الوعي، فإنهم يفرغون العبادة والطاعة من مضمونها العميق، ومثلهم في ذلك مثل من يطوي درباً يمر بدائرة فارغة، يسير ويسير ثم يرجع لاهثاً، من تعب المسير، إلى نقطة البداية.