ينقل عن أينشتاين قوله : "الغباء هو فعل الشيء ذاته بالأسلوب ذاته والخطوات ذاتها مع انتظار نتائج مختلفة ". ينطبق هذا بالتمام والكمال على من اتقن فن تكرار المعارك ذاتها ، بالأسلوب ذاته ، طيلة العقد الماضي ، وآخرها معركة غزة الحالية ، وهي كلها تبدأ بعملية يقوم بها تنظيم مسلح ، فترتكب إسرائيل ، بذريعة ذلك ، وهي بالطبع لا تحتاج إلى ذرائع ، مجازر بحق شعب بأكمله. في إثر ذلك، يبدأ جمهور المتحمسين للقضية العربية حملات التنديد بالعدوان ، ويعرج على شتم الاستعمار والغرب والامبريالية والتخاذل العربي والمؤامرات الدولية والصمت العالمي ، ويترافق ذلك مع نشر صور مثيرة عن المجازر بحق الاطفال والمدنيين والمطالبة بتوسيع حملات الدعم الإعلامي والمالي والانساني مع المحاصرين أو النازحين أو المهجرين أو اللاجئين ، واستدرار العطف عليهم ، من غير أن ينسوا التهديد بقصف صاروخي يشبه ذاك الذي سبق أن هددت به مناطق ما بعد ما بعد ما بعد حيفا ، الخ . هذا تجسيد حي لنهج الممانعة . والممانعون نوعان : قادة وحكام مشكوك بنزاهة خططهم ، وجمهور لا شك في صدق انتمائه إلى القضية ، لكنهما متضامنان حول هذا النهج ويدافعان عنه باعتباره السبيل الوحيد "لتحرير فلسطين وتوحيد الأمة العربية ، وفي مواجهة الرجعية والمال الخليجي والمؤامرات الأمبريالية ، الخ ." في المقابل ، المعترضون على هذا النهج تعوزهم جرأة النقد ، لأن سيف اتهامهم بالعمالة مرفوع فوق رقابهم. لكن بعضهم عبّر ، هذه المرة ، بخجل ،عن بعض قرفه من نهج الممانعة على صفحات التواصل الاجتماعي ، ولم يسلم من سهام التهم الرخيصة . يعرف قادة الممانعة أن الاعتراض ليس اعتراضا على الصراع مع إسرائيل ، بل هو اعتراض عليهم وعلى النهج الذي اختاروه منذ النكبة ولم يحيدوا عنه . ذاك المبني على استراتيجيات مغلوطة وعلى خطط تكتيكية خاسرة ، وعلى آليات في الحرب مستلهمة من الطير الأبابيل لا من موازين القوى الإلكترونية والرقمية والحاسوبية ، وقوامه حروب محكومة بمنطق الثأر والغزو لا بمنطق الحلول أو التسويات ، وما أكثر الأدلة على ذلك . في النكبة رفضوا التقسيم وبعد عشرين عاما ، أي غداة الهزيمة وافقوا عليه بموافقتهم على القرار الدولي رقم 242 . وفي مؤتمر الخرطوم قالوا لا صلح ولا اعتراف ولا مفاوضات ، ثم اعترفوا وفاوضوا وصالحوا في مدريد ، أي بعد حوالي ثلاثين عاما . حروبهم لا تخسر أبدا ، ذلك أن لهم عدادات للربح والخسارة لا تحسب حسابا لغير السلطة الحاكمة في الحزب أو في الدولة ، وشعارهم "طالما أن الحاكم بخير فالوطن بخير " ؛ هم فوق النقد لأن في سلطتهم شيئا من القداسة ، ولأن النقد مطلوب فحسب من العدو ليوفر لهم تبريرات لانتصاراتهم الوهمية . البارحة صدر عن مسؤول اسرائيلي كلام لافت يلوم فيه العربي ، لا على قتله اسرائيليين ، فهذه هي لغة الحرب بحسب رأيه ، بل على خلق مبررات تجعل اسرائيل تقدم على قتل المزيد من العرب ، في حين يشمت العربي بإسرائيل التي ترضى بمبادلة آلاف الأسرى بأشلاء جنودها أو ببقايا أمتعتهم وأحذيتهم . رغم كل الشكوك بصدق كلام الاسرائيلي ، فإن ما لا يرقى إليه الشك هو أن قادة الممانعة لا يدخلون في إحصاءاتهم ضحايا الحروب ، ويحسبونها من جملة الخسائر في العدة والعتاد ، هذا ما حصل في كل الحروب العربية مع إسرائيل ، وخصوصا في حرب غزة السابقة وفي حرب جنوب لبنان ، عام 2006 ، التي دفع فيها لبنان أكثر من ألف قتيل من أجل تحرير أسيرين . كما أن قادة الممانعة لا يدخلون في حسابات الربح والخسارة ما تؤول إليه الحروب من نتائج سياسية ، لأن معيارهم الوحيد هو قدرتهم على " تحريك " القضية ، حتى لو انتهى ذلك باتفاقات لصالح العدو ، على غرار ما حصل في القرار 1701 ، غداة الحرب ذاتها في تموز 2006 ، وهو اتفاق قضى بحماية الحدود الاسرائيلية حماية كاملة تتعهد قوات من الأمم المتحدة بالتعاون مع الجيش اللبناني بتنفيذها ، ويتعهد حزب الله بتطبيقها حرفا حرفا ، مجسدا ذلك في هدوء الجبهة المستمر على مدار عقد كامل من الزمن ، تمثلا بالهدوء على جبهة الجولان المستمر منذ أكثر من أربعين عاما . كما أنهم يهملون البحث بالنتائج الاقتصادية ، فكلفة كل حرب تبلغ مليارات الدولارات فضلا عن تعطيل عجلة الاقتصاد وإرجاء نفقات الحرب ليسددها الجيل التالي . غير أن اللافت في الأمر هو الدفاع الحماسي عن نهج الممانعة هذا لا من جانب القادة فحسب ، بل كذلك من جانب جمهورهم الصادق الانتماء إلى القضية ، لكن لم تكفه الأثمان الباهظة التي ألزمه هذا النهج بدفعها منذ النكبة حتى اليوم ، والتي هددته بأمنه وحياته واستقراره وبوحدة أوطانه. واللافت أكثر أن بعض المدافعين عن هذا النهج هم أشدهم اعتراضا على ما يتلازم معه من استبداد على الشعوب العربية و ألغاء للحريات وفرض حالات الطوارئ وتعطيل الدساتير ، وتعميم الحكم الوراثي في كل أنحاء العالم العربي، بما في ذلك حيث تجرى انتخابات وتستعمل صناديق الاقتراع. صار ينبغي أن تدق ساعة النقد الذاتي أمام جمهور الممانعين واليساريين ، فلم يعد جائزا أن يخرج الخاسر من الحرب ليحكم في السلم ، وأن يكرر تجربته الخاسرة بحذافيرها ، برنامجا وخطابا إعلاميا واستدرار عواطف ومساعدات وصرخات استجداء. مثل هذا النهج لن يحرر فلسطين ، بل إن الاصرار على اعتماده سيؤول إلى مزيد من التخبط الفلسطيني في الداخل ومزيد من التردي في أحوال المشرق العربي في لبنان وسوريا والعراق ، وإلى جر العالم العربي نحو جهالة القرون الوسطى، بأبهى صورها في التجربتين الأفغانية والصومالية.
الحروب الغبية
الحروب الغبيةمحمد علي مقلد
NewLebanon
مصدر:
المدن
|
عدد القراء:
440
عناوين أخرى للكاتب
مقالات ذات صلة
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل ( ٨ ) سفارة لبنان في...
الشاعر محمد علي شمس الدين يترجل عن صهوة الحياة الى دار...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (7) سفارة لبنان في...
ديوان المحاسبة بين الإسم والفعل (6) سفارة لبنان في المانيا...
65% من المعلومات المضللة عن لقاحات كوفيد-19 نشرها 12...
لبنان: المزيد من حالات وارتفاع نسبة...
ارسل تعليقك على هذا المقال
إن المقال يعبر عن رأي كاتبه وليس بـالضرورة سياسة الموقع
© 2018 All Rights Reserved |
Powered & Designed By Asmar Pro