لا يمكن تفسير موقف العماد ميشال عون الحائل دون إتمام الانتخابات الرئاسية والمتمسّك بالفراغ الرئاسي إلّا في كونه ينمّ عن رهان مزدوج: رهان على الوقت لعله يفسح في المجال أمام بروز تطورات تعيد الاعتبار لحظوظه الرئاسية، ورهان على قدرته بتغيير المعطيات الحالية عبر الربط مع التحولات الخارجية.
في قراءة موضوعية للتطورات الخارجية التي تسقط احتمالات وصول عون إلى قصر بعبدا يمكن التوقف أمام الآتي:أولاً، إيران في وضع لا تحسد عليه بين مفاوضات نووية لن تنتهي إلّا بسحب التفوّق الايراني النووي او مواصلة العقوبات التي لم تعد تتحمّلها طهران، وبين تطورات على حدودها العراقية أحيَت لديها كابوس صدام حسين.
ثانياً، العراق الذي انتقل من دولة معادية لطهران الى تابع لها أصبح اليوم أمام احتمالين: إمّا الفوضى وعدم الاستقرار ودويلات الأمر الواقع، وإمّا الوصول إلى تسوية سياسية من شروطها وقف التدخل الإيراني في الشأن العراقي وقيام علاقة ندية بين الدولتين، وفي الحالتين إسقاط الجسر الذي كان يربط إيران بسوريا ولبنان وفلسطين.
ثالثاً، سوريا التي شكا لبنان من محاولاتها الهيمنة عليه منذ نشأة الكيانين، وتحديداً بعد العام 1990، لن تعود سوريا نفسها، فحتى في ظل الاحتمال الضعيف لقيام دولة علوية لن يكون لها أيّ تأثير على لبنان، ولن يكون لها أيضاً أي دور إقليمي.
رابعاً، لبنان الذي سعى «حزب الله» إلى حكمه مستنسخاً تجربتي أبو عمار وأبو باسل بقي عصيّاً على الحزب لسبب بسيط أنّ الوصايات الخارجية بشعارات قومجية ممكنة، فيما وصاية فريق داخلي على الفرقاء الآخرين مستحيلة، وقد أثبتت ذلك محطتا 7 أيار وإسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري.
خامساً، لم تعد الأحداث داخل فلسطين تؤثر على محيطها، خصوصاً بعد التطورات السورية والعراقية، وكل ما تقوم به إسرائيل لا يعدو كونه إعادة الاعتبار لحماس والقوى الرافضة للسلام، التي تراجع دورها بعد انتهاء دور الإخوان المسلمين في مصر وارتفاع منسوب الصراع المذهبي، وذلك بهدف ضرب الخيارات السلمية.
فكلّ ما تقدم يؤشّر بشكل واضح إلى أنّ محور الممانعة الذي ينتمي إليه العماد عون مأزوم، وهو يصارع ضمن سياسة البقاء والاحتفاظ بما أمكن من أوراق، لا السعي إلى تعزيز أوراقه أو فتح مواجهات جديدة تدفعه الى مزيد من الخسائر.
كما أنّ المؤشرات نفسها تفيد بأنّ الوقت لا يعمل لصالح هذا المحور. وبالتالي، الرهان على تسويات جزئية بين طهران والرياض هو وهم، فضلاً عن أنّ محاولات التقارب من الرياض عبر الرسائل التي وجّهها العماد عون الى الدول الثلاث الراعية لاتفاق الطائف، أي السعودية والمغرب والجزائر، لن تجدي نفعاً، لأنّ ما أفسدته عقود من الممارسة لن تصلحه أشهر...
وفي قراءة للتطورات الداخلية يمكن التوقف امام الآتي:
أ - الثغرة التي اعتقد عون انه نجح في فتحها مع تيار «المستقبل» أظهرت الأحداث بأنها ما دون الاستحقاق الرئاسي.
ب - لم ينجح في إرساء علاقة تحالفية مع البطريرك بشاره الراعي ولا في جعله يتبنى وجهة نظره الرئاسية، إنما على العكس وضع نفسه في مواجهة مع بكركي.
ج - لم يسع لاستمالة الرئيس أمين الجميل والدكتور سمير جعجع عبر مقاربة وطنية - مسيحية تجعلهما في موقع الداعم لترشيحه، لا بل سعى للوصول عن طريق «المستقبل» بغية العمل على تطويقهما.
د - لم تظهر الوقائع انّ قوى 8 آذار متحمّسة لوصوله، إذ تعاطت مع الاستحقاق الرئاسي ببرودة وعن بعد من دون ممارسة أي ضغط عملي او إعطاء إشارة بأنّ عدم انتخابه هو بمثابة رسالة ضدها.
هـ - لم يقدم على أيّ خطوة باتجاه النائب وليد جنبلاط الذي وجد نفسه محرراً من ضغوط الحزب ومن أيّ التزامات مع عون، فعبّر عن رفضه الشديد لانتخابه.
وبعد المعطيات الخارجية تفيد المعطيات الداخلية انّ حظوظ وصول العماد عون الى الرئاسة الاولى أصبحت معدومة، وبالتالي السؤال البديهي الذي يتبادر الى الذهن ماذا ينتظر عون؟ ومن الواضح انه لا ينتظر شيئاً محدداً، إنما يعتبر أنّ التنازل رئاسياً اليوم قد يحرمه من فرصة الوصول غداً إذا ما تجمّعت معطيات لمصلحته. وبالتالي، لن يفكّ أسر الرئاسة طالما انه قادر على حجزها ومنع وصول مرشّح غيره.
فحظوظ الجنرال انتهت مع انتهاء المهلة الدستورية للاستحقاق الرئاسي، وعدم تسليمه بهذا الواقع سيجعله خارج أيّ تسوية رئاسية محتملة على غرار استثناء نفسه من الطائف ومن ثم التسليم بشروط هذا الاتفاق، كما استثناء نفسه من التحالف الرباعي ومن ثم ذهابه الى تحالف ثنائي وضعه في مواجهة مع نصف اللبنانيين.
وأيّ متابعة للوضع تظهر أنّ تمسّك شريحة واسعة من المسيحيين بانتخاب رئيس تمثيلي تراجعت بعد 25 أيار لمصلحة أنّ أيّ رئيس يبقى أفضل من الفراغ، وهذه المسؤولية يتحمّلها عون منفرداً نتيجة رفضه توفير النصاب لمعركة حقيقية بين الاقطاب التمثيليين، كما أن المتابعة نفسها تظهر أنّ البطريرك وصل الى اللحظة التي يمكن أن يتبنى فيها مرشحاً يحظى بتغطية من 14 آذار وجنبلاط والرئيس نبيه بري، فضلاً عن الغطاء الخارجي، الأمر الذي سيجعل «حزب الله» يعيد، ربما، حساباته وينضمّ الى التحالف الرئاسي.
كما أن المتابعة نفسها تظهر أخيراً أنّ أيّ تسوية رئاسية محتملة لن يكون عون من بين الأسماء المطروحة فيها، لأنّ رمزيته وتموضعه لن يجعلا التوافق حوله ممكناً، حيث أنّ أي تسوية تفترض البحث عن الشخصية التي تتقاطع حولها معظم القوى.
ومن هنا إلى أين؟ الى مزيد من الخسائر وطنياً ومسيحياً، لأنّ الفراغ في «بعبدا» سيبقى سيّد الموقف بانتظار حدث ما يُعيد خلط الأوراق أو يجرّ البلاد إلى تسوية تنتزع من المسيحيين مزيداً من الصلاحيات، ومن بعدها يقود مواجهة التسوية الجديدة التي ما كان ممكناً أن تبصر النور لولا دفعه الأمور بهذا الاتجاه، وذلك على غرار ما فعله مع اتفاق الطائف...