ما أجمل ما قاله سيد الدعاة الإمام علي (ع) "  إنَّ الحق ثقيل مريء  وإنَّ الباطل خفيف وبيء....وإنما طلبتُ حقاً وأنتم تحولون بيني وبينه....وأردتكم لديني وأردتموني لدنياكم ".. ما من قائمٍ ومصلحٍ في المجتمعات البشرية منذ آدم وإلى يومنا هذا ، يدعو إلى محاربة ضلالة أو عنوان خدَّاع تضلِّل المجتمع وتخدعه ، يكون قد أعلن الحرب على حياته بحربٍ لا تُخمد نارها ولا تخبو أوارها ، إلاَّ أن يحقِّق غايته إما بالقضاء عليها أو على نفسه..هذه سيرة تاريخية عاشها المصلحون والدعاة المخلصين كالأنبياء والحكماء والفلاسفة ، فكانوا لا يبالون أن يسمِّيهم الناس خونة أو كفرة أو فجرة أو جهلة أو زنادقة أو ملحدين أو فاسقين أو مارقين أو مرتدين أو جهلاء ودخلاء وعملاء أو ضالَّين ، فهذا أمرٌ لا بدَّ منه في تركيب العقل المنفعي في حياة المجتمع...لأن طبيعة أكثر الناس تنخدع بالشعارات والطقوس الخدَّاعة والعناوين الكاذبة..وكيف لا يكون ذلك ما سمَّينا صالحاً تقيَّاً كل من حرَّك سُبَّحته الطويلة ، ومن أرخى لحيته ، ووسَّع جُبَّته ، وهندَمَ عمامته ، وقد نعلم من وراء هذا العنوان الأبيض كتاباً أسود الصفحات ، وأنَّ تحت عباءته الحريرية الملوَّنة والشفَّافة قلباً أسوداً مظلماً لا تنفذه أشعة الرحمة ولا تمكنه ذرة ونسمة من الإحسان..ولولا هذه العناوين ما سمَّينا مؤمناً عابداً زاهداً متعلِّقاً بحبال الكعبة يقوم الليل ويصوم النهار وجبينه مختوم بختم السجود تراه لا يصنع معروفاً جميلاً ولا يدفع غائلة ومنكراً وليس مستعداً أن يحرِّك سبابته ليرفع عبء فقير ومحتاج...تراه دائماً يلهج لسانه بآيات طويلة من الذكر الحكيم ،ومتختِّماً بخاتمٍ في خنصره وفي بنصره حرزٌ يمانيٍّ ، لأنها لا تُكلِّفه بشيءٍ أكثر مما يتكلَّف لتقليب ناظريه وتحريك هُدبيه ، وكأن الله تعالى خلق الشفاه للتحريك والأنامل للتقليب....إنَّ الدعاة المخلصين يعلمون أنَّ محمداً (ص) عاش في قومه وبين أعدائه ساحراً ومشعوذاً وكذَّاباً فلما إنتقل إلى ربه مات سيَّد المرسلين.... إنها حقيقةٌ صوَّرها القرآن الكريم كما مرَّ على نوحٍ (ع) " وكُلَّما مرَّ عليه ملاٌ من قومه سخروا منه "...وهكذا مع النبي موسى (ع) الذي تاه في قومه أربعين سنة ومات مع أخيه في التيه...ولم يكن حظ المسيح (ع) بأفضل من ذلك بعد أن أعدموه صلباً....ومع هذا كله فقد دفعوا ثمن هدايتهم تلك الإتهامات ولكنهم لم يلجأوا إلى تبريرات تحفظ أرواحهم كما لجأ أكثر دعاة اليوم الذين يسكتون عن مظالم الناس بدعوى أنهم لم يستطيعوا تغيير الواقع وبالتالي يسقط عنهم ويتمسَّكون بأدلة "إحتمال التأثير"...هذا أشبه ما يُوسوس به الشيطان للعاجزين الجاهلين وهذا هو الدَّاء الذي ألمَّ بنفوس كثير من العلماء والدعاة فأسكت ألسنتهم عن قول الحق وحبس نفوسهم عن الإنطلاق في سبيل الهداية والإرشاد ، فتراهم يعظون وينصحون ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ولكن لا يوجد بينهم من يستطيع أن يحمل في سبيل الدعوة ضرَّاً ، أو يلاقي في طريقها شرَّاً ، فأصبحوا لا عمل لهم إلاَّ أن يكرِّروا للناس ما يعلمون ، ويعيدوا عليهم ما يحفظون، فجمدت الأذهان وسكتت المدارك وأصبحت العقول في سجنٍ مظلمٍ لا تطلع عليهم الشمس ، ولا ينفذ إليه الهواء ، وكيف لا يكون هدفهم ذلك وهي مورد رزقهم... ناسيين ما حمله الدعاة من آيات " وذكِّر فإنَّ الذكرى تنفع المؤمنين" ومعه تنبيه أصحاب الضمائر الحيَّة وإلقاء الحجَّة على الإنسان في نهاية المطاف "وهديناه النجدين" أو "إنَّا هديناه السبيل إمَّا شاكراً وإمَّا كفوراً"...فما أجمل الواعظ والداعي إذا كان عاملاً بما يعظ به ويدعو إليه ، وما أروع المبلِّغ إذا صدق قوله فعله ، وما أجلَّ الإثنين معاً حتى ولو إتهم بالكذب والسحر فله أسوةٌ بنبيه محمد(ص) في سبيل ما دعى إليه إيماناً وإعتقاداً...

الشيخ عباس حايك