فتحت تجربة الفراغ الرئاسي الباب أمام تجربة حكومية فريدة من نوعها، فلا أكثرية وأقلية، ولا نصفَ زائداً واحداً ولا ثلثَ معطلاً، ولا 8 و14 آذار ووسطيين، إنما يكفي بكلّ بساطة لأيّ وزير من وزراء حكومة الرئيس تمام سلام الـ 24 أن يعترض على موضوع أو مرسوم أو قرار ليُسحب من التداول.
لا يبدو أنّ الانتخابات الرئاسية حاصلة غداً، ولا بل كل المؤشرات تفيد أنّ الفراغ طويل للأسباب ذاتها التي لا بد من المرور عليها سريعاً وتذكيراً: الجنرال ميشال عون متمسّك بترشيحه، «حزب الله» متضامن معه ولبنان خارج دائرة الاهتمام الدولي، حيث الأولوية للاستقرار من دون أي شيء آخر.وفي حال لم تطرأ متغيّرات كبرى وتحولات جذرية في المشهدين الخارجي والداخلي، فالانتخابات الرئاسية التي خرجت من البرلمان اللبناني لن تعود إليه إلّا في أعقاب تسوية سياسية على غرار تسوية «الدوحة» بالحد الأدنى أو «الطائف» بالحد الأقصى، ما يعني إدخال تعديلات دستورية يتراوح حجمها وفق اللحظة السياسية وطبيعة التسوية نفسها.
ومن هذا المنطلق قد تشكل التجربة الحكومية الأخيرة بعد أن تولّت صلاحيات رئاسة الجمهورية، خصوصاً في حال طال أمد الفراغ ونجاح هذه التجربة، مطلباً لكلّ القوى السياسية، وهذا المطلب قد يكون متأتياً من وصول طرفي الصراع إلى خلاصتين: استحالة إبرام تسوية تعيد الاعتبار للدولة، واستحالة هيمنة فئة على الفئات الأخرى، ما يعني إدخال تعديلات جذرية على النظام السياسي التشاركي بالشكل الذي تشعر فيه كل فئة بأنّ حقوقها مؤمنة.
ومن الأمثلة على ذلك الآتي:
أولاً، هل كان «حزب الله» استخدم سلاحه في 7 أيار 2008 بغية إسقاط قرارين حكوميّين لو أن هذه التجربة كان معمولاً بها آنذاك؟ بالتأكيد كلا، إذ كان يكفي أن يعترض وزير واحد من الحزب أو حليف له لسحب هذين القرارين من جدول الأعمال. وهذه الصيغة قد تكون مثالية بالنسبة إلى «حزب الله» في حال اقتنع باستحالة هيمنته على لبنان، لأنه يضمن بواسطتها الاحتفاظ بسلاحه الذي يشكل أحد أبرز مطالبه.
ثانياً، هل كان «حزب الله» قد لجأ إلى إقفال المجلس النيابي، وأصرّ على الثلث المعطّل في الدوحة، وأسقط حكومة الرئيس سعد الحريري وغيرها من القضايا؟ بالتأكيد كلا، لأنّ ما الغاية من خطوات من هذا النوع طالما أنه قادر على وضع فيتو على كل قضية تتعارض مع توجّهه.
ثالثاً، هل كان تعرّض تيار «المستقبل» وقوى ١٤ آذار لحملة منظّمة ومبرمجة لإخراجهم من السلطة على خلفية مواقفهم السيادية وسعيهم لتوسيع نفوذ مشروع الدولة على حساب الدويلة؟ بالتأكيد كلا، لأنّ مشاركتهم في السلطة تشكل مصدر اطمئنان لهم من دون تهديد الفريق الآخر. فمواقفهم السيادية غير قابلة للتطبيق إلّا بموافقة الطرف الاخر.
رابعاً، هل المخاوف المسيحية من تحالف رباعي إسلامي أو تمرير قضايا تمسّ شراكتهم وحضورهم تبقى مبررة؟ وألا يَسقط مبرر المطالبة بإعادة تعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية؟ وما أهمية رئاسة الجمهورية ودورها بعد أن فاقت صلاحيات الوزير صلاحيات الرئيس في الجمهورية الأولى؟ وألا تنتفي الحاجة الى الكلام عن ضمانات وحقوق ومَن يحزنون؟ وهل المسألة مسألة شكليات أم شراكة فعلية في صناعة القرار الوطني؟
وهذا الكلام ليس القصد منه تبنّي هذه الصيغة أو تلك، إنما مجرد عرض للوقائع، حيث انّ إسقاط قاعدة الأكثرية والأقلية في بلد تعددي تتداخل فيه العوامل الطائفية والمذهبية والدينية والمدنية والأيديولوجية قد يكون أحد الحلول الراهنة بانتظار التسويات الخارجية واطمئنان النفوس الداخلية.
ومن ثم ثمّة شعور، وهذا واقع، أنّ كل طائفة تسعى للتمدد على حساب الأخرى، وأنّ أحد أوجه الصراع في الجمهورية الأولى كان من طبيعة طائفية، وتحوّل ما بعد الطائف إلى صراع من طبيعة مزدوجة طائفية ومذهبية، فضلاً عن هواجس الطوائف وتحديداً المسيحيين لناحية تراجع حضورهم الديموغرافي وخشيتهم من تقلّص نفوذهم وتأثيرهم، فيما التجربة الحالية تجعل من صوت ممثّل الأقليات في الحكومة موازياً لأصوات الموارنة والسنة والشيعة وغيرهم. وبالتالي، تُشعر الجميع بأنهم شركاء في القضايا الكبرى والمسائل التفصيلية، وأيّ اعتراض من أي وزير حيال أي موضوع كاف بتوقيفه وتجميده.
فمن إيجابيات هذه الصيغة أنها تزيل الشعور بالاستهداف على المستويين الطائفي والسياسي، حيث أن قاعدة الحكم هي التوافق، فلا قوى 8 آذار تستطيع أن تفرض شيئاً على قوى 14 آذار، ولا العكس، كما لا تستطيع أي طائفة أن تعزّز نفوذها على حساب الأخرى، الأمر الذي يؤدي إلى فك ارتباط نهائي بين البعدين السياسي والوجودي. ومن سلبيات هذه الصيغة أنها تعطّل الديموقراطية وتريِّح «حزب الله» الذي يتخلّص من ضغط اللعبة السياسية على سلاحه.
وبما أن معظم القوى السياسية بَدّت خيار التشارك في الحكومة تنفيساً للاحتقان وتجنباً للأسوأ، فلا بأس من ترقّب ما ستؤول اليه التجربة الحكومية الجديدة التي ستمنحها الظروف التعطيلية الرئاسية حقّها في الاستمرارية حتى إشعار آخر ومن دون مِنة من أحد.
ويجب التأكيد أنّ هذه التجربة حصلت من دون سابق تصوّر وتخطيط، إنما الفراغ والحرص على توافق الحد الأدنى لحماية الاستقرار قادا إلى ابتكار هذه الصيغة التوافقية التي تبطل تأثير السلاح في اللعبة السياسية الداخلية، كما تبطل تأثير انتصار مشروع على آخر على التوازنات الطائفية والمذهبية والسياسية، فضلاً عن أنها تضع حداً نهائياً لتمدّد نفوذ فئة طائفية أو سياسية على أخرى، ولكنها في الوقت نفسه تحول دون بناء دولة بخيارات وطنية واحدة.
وإذا كان قيام هذه الدولة متعذراً، فلا بأس، ربما، من إعطاء الصيغة الحكومية الجديدة حقها بانتظار أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً...