ليست هي المرة الأولى تتحول فيها معركة انتخاب رئيس للجمهورية معركة نصاب. فعندما دعمت سوريا ترشيح الياس سركيس للرئاسة الاولى لم ترشح المعارضة منافساً له بل حاولت تعطيل نصاب الجلسة اعتماداً على قصف مدفعي على "قصر منصور" المقر الموقت آنذاك لمجلس النواب تولاه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات الذي كان على خصومة مع الرئيس السوري حافظ الأسد. لكن محاولة تعطيل تلك الجلسة فشلت وتأمن النصاب حتى تحت القصف المدفعي. وعندما ترشح الشيخ بشير الجميل للرئاسة جرت أيضاً محاولة تعطيل النصاب لكنها لم تنجح فانتخب رئيساً للجمهورية. وعندما انتهت ولاية الرئيس أمين الجميل استمر الشغور في منصب الرئاسة الأولى أكثر من سنة إلى أن تمّ التوصل الى اتفاق الطائف بعد حرب داخلية، وصار اتفاق على أن يكون رنيه معوض رئيساً للجمهورية، وخلفه بعد اغتياله الياس الهراوي. وعندما انتهت ولاية الرئيس إميل لحود بعد تمديدها ثلاث سنوات ظلت البلاد بلا رئيس مدة ثمانية اشهر لأن سوريا دعمت قوى 8 آذار في تعطيل نصاب الجلسات للحؤول دون وصول أحد مرشحي قوى 14 آذار نسيب لحود وبطرس حرب المضمون فوز أحدهما بأكثرية نيابية كانت لهذه القوى، في حين أن قوى 8 آذار لم يكن بإمكانها إيصال مرشحها العماد ميشال عون الذي التقى معها في تعطيل الجلسات إلى أن كان اتفاق الدوحة وتقرر انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية بعد ستة أشهر من هذا الاتفاق... وها أن لعبة تعطيل النصاب تتكرر بعد انتهاء ولاية الرئيس سليمان بواسطة نواب قوى 8 آذار باستثناء نواب كتلة الرئيس نبيه بري، للحؤول مرة أخرى دون فوز مرشح من قوى 14 آذار، وقد مضى أكثر من شهر على انتهاء المهلة الدستورية المحدّدة لانتخاب الرئيس ونواب قوى 8 آذار لا يعلنون عن مرشحهم ولا يحضرون جلسات الانتخاب ولا يدخلون في بحث مع قوى 14 آذار عن مرشح توافق أو مرشح تسوية لأن "حزب الله" ومن معه لا يرى أن الظروف الراهنة مؤاتية لانتخاب من يريده رئيساً وينتظر إشارة من إيران، وهي إشارة لم تأتِ بعد ربما في انتظار التوصل الى اتفاق مع أميركا على الملف النووي قد يعقبه تقارب إيراني – سعودي شبيه بالتقارب الذي تحقق في الدوحة بين الدول المعنية بانتخابات الرئاسة في لبنان.
لذلك فالمسألة ليست مسألة عقد جلسات نيابية متواصلة لانتخاب رئيس كما يقترح البطريرك الكاردينال الراعي، إنما هي مسألة نصاب لم يستطع البطريرك نفسه مع كل الجهود التي يبذلها تأمين هذا النصاب لأن زعيمين مارونيين هما العماد عون والنائب سليمان فرنجيه التحقا بركب "حزب الله" ولم يلتحقا بركب بكركي لأنهما في خط سياسي واحد معه وهو الخط السوري – الايراني، الأمر الذي يجعل المشكلة مشكلة نصاب لا مشكلة عقد جلسات وانتخاب رئيس. فهل الزعيمان المارونيان عون وفرنجيه مستعدان بالاتفاق مع "حزب الله" أو بدون الاتفاق معه، لطرح اسم مرشح ينافس مرشح قوى 14 آذار أو الاتفاق على حضور الجلسة لتأمين النصاب وجعل الأكثرية النيابية تنتخب من تشاء من مرشحين معلنين وغير معلنين؟ وعندما يتأمن هذا النصاب، فإن الرئيس بري مستعد لأن يبقي الجلسة مفتوحة إلى أن يخرج منها الدخان الأبيض.
هذا الوضع الشاذ الذي وضعت فيه البلاد نتيجة الانقسامات الحادة بين 8 و14 آذار، لا خروج منه إلا بانتخاب رئيس للجمهورية في أسرع وقت لأنه هو وحده رئيس كل السلطات والساهر على تطبيق الدستور وهو وحده الذي اقسم اليمين على ذلك.
والسؤال المطروح ولا جواب عنه حتى الآن هو: هل سيوافق النواب المقاطعون على حضور جلسة انتخاب الرئيس، وماذا ينتظرون ليقرروا: هل ينتظرون كلمة إيران كما كانوا ينتظرون من قبل كلمة سوريا؟ هل ينتظرون الاتفاق على رئيس مقبول منهم؟ هل العماد عون مستعد لأن يكون قراره منفصلاً عن قرار "حزب الله" في موضوع الانتخابات الرئاسية ما دام أنه ينفي أي ارتباط له بالخارج وكي لا يتحمل كزعيم ماروني مسؤولية استمرار الشغور في أعلى منصب ماروني في الدولة، أو لأنه يريد أن يكون هو الرئيس وإلا فلا رئاسة، ويريد أيضاً أن يظل متضامناً مع "حزب الله" في السراء والضراء وخصوصاً أن الانتخابات النيابية على الأبواب، وإذا لم يحافظ على هذا التضامن خسر عدداً من المقاعد النيابية فلا تظلّ كتلته عندئذ ثاني أكبر كتلة نيابية بعد "كتلة المستقبل"؟
ويتساءل مسؤول كنسي بحزن والم: هل يعقل أن يستمر الشغور الرئاسي، وهل مقبول ذلك ولا يتحمل الزعماء الموارنة قبل غيرهم المسؤولية لأنهم منقسمون، وإذا كان من حقهم الانقسام حول المرشحين للرئاسة فليس من حقهم مقاطعة جلسات الانتخاب من دون أي مبرر سوى أن يكون لبعضهم ارتباط بخارج لا مصلحة له في انتخاب رئيس في الوقت الحاضر؟