تَعذّر التقسيم في لبنان له أسباب ثانوية وأخرى رئيسية، ومن الأسباب الثانوية غياب المناطق الصافية تماماً لدى كل الجماعات، والمساحة الجغرافية الصغيرة، وتعدد المذاهب والطوائف، والحاجة الى قرار دولي، أمّا الأسباب الرئيسة فهي من طبيعة أخرى.
لا يمكن التقليل من الخلفية الثقافية والدينية التي تتحكّم بالمجموعتين المسيحية والإسلامية، والتي حالت وتحول دون التقسيم، حيث أنّ الأولى لم تسع يوماً إلى إنشاء دولة مسيحية، وكلّ همها كان وما زال إرساء نظام سياسي قائم على مبدأ الحرية ويتّسِع للجميع، حيث يمارس كل مواطن حقّه ضمن القوانين المدنية المرعية. وقد أثبتت هذه التجربة نجاحها على المستوى الاجتماعي، فيما أخفقت على المستوى السياسي نتيجة إصرار البعض في شتى المراحل على ربط لبنان بمشاريع خارجية.والمحطة الحديثة التي تعكس بشكل واضح التوجّه المسيحي الذي يبدِّي الاعتبار القيمي - الوطني على المسيحي كانت في العام 1982، وذلك في موازاة المحطة التأسيسية مع اعلان لبنان الكبير، بطبيعة الحال، لأنّ الحرب اللبنانية ولّدت قناعة لدى شريحة مسيحية واسعة بأنّ صيغة التعايش غير قابلة للحياة، وأنّ ضمان الوجود المسيحي يكون من خلال الذهاب إلى نظام انفصالي، لا وحدوي.
وعلى رغم أنّ النفوس كانت مهيئة في المناطق المسيحية لخطوة من هذا النوع نتيجة الخطر الوجودي الذي كانوا يشعرون به إبّان الحرب الأهلية والذي أدى إلى ولادة مشاريع تتحدث صراحة لا مواربة عن اللامركزية السياسية الموسّعة واقتراع كل طائفة لنوّابها قبل «سيدة البير» وبعدها، إلّا أنه بعد أن حسمت التطورات الإقليمية الصراع لمصلحتهم فضّلوا العودة الى لبنان الكبير لا الصغير الذي رسّمته أحداث العام 1975، ومصلحتهم لا تعني إطلاقاً غلبتهم على غيرهم، إنما تعني العودة الى لبنان الذي كان لهم اليد الطولى في إرسائه على أساس الحياد عن التطورات الخارجية، ونهائية الكيان والسيادة والاستقلال والحرية بكل أبعادها على المستوى الداخلي.
وهذا ما يؤكد أنّ خيار التقسيم لدى المسيحيين غير موجود، وإن وجد نظرياً يكون نتيجة ظروف قاهرة لا أكثر ولا أقل. وعلى المستوى الإسلامي هناك رفض ديني ومبدئي أساساً للتقسيم والتجزئة انطلاقاً من الخلفيتين الدينية والقومية، وأمّا الأزمات التي توالدت مع البيئة الإسلامية فكانت تاريخياً من طبيعة توسعية لا انغلاقية من قبيل ضَمّ لبنان وتذويبه وصهره، وما يجري اليوم مع «حزب الله» أكبر دليل عبر ربط لبنان بمحور الممانعة.
فالتقسيم بهذا المعنى غير مطروح إسلامياً، فيما المشاريع التوسعية سقطت سنيّاً، حيث أصبح تيار المستقبل من اكثر المدافعين شراسة عن استقلال لبنان وسيادته واحترام دستوره، كما أنّ كل الدول السنية، وفي طليعتها مصر والسعودية، حريصتان كل الحرص على الحدود الجغرافية لكل الدول في المنطقة وعلى استقرارها، وأمّا الظاهرة المستجدة التي دعت الى الخلافة وبدأت بإزالة الحدود الجغرافية، فهي حالة طارئة ومضخّمة وظرفية ووظيفتها تنتهي مع التسوية الإقليمية التي تعيد كل دولة إلى داخل حدودها.
وعلى مستوى «حزب الله» فهو أيضاً في غير وارد التقسيم، ومشروعه هو الهيمنة على كل لبنان وليس على جزء منه، والحالة الشيعية تختلف عن الحالة العلوية في سوريا والشيعية في العراق، بمعنى أنّ التقسيم المحتمل في دمشق وبغداد لن ينسحب على بيروت، وذلك ربطاً بمجموعة عوامل تاريخية وجغرافية وسياسية.
وبالتالي، في اللحظة التي تتراجع فيها إيران عن مشروعها التوسعي، وهذه اللحظة أصبحت قريبة، يتراجع تلقائياً الحزب عن محاولاته الهيمنة على البلد، فهو لن ينتحر، وأثبتَ في محطات عدة منذ التحالف الرباعي الى حكومة الرئيس تمام سلام عن واقعية سياسية، وهذه الواقعية نفسها ستجعله َيتلبنَن رغماً عن إرادته ورغباته وتطلعاته.
فالتعددية اللبنانية التي اعتبرها البعض انها تشكّل مصدر غنى للبنان، فيما رأى فيها البعض الآخر كارثة على البلد، كانت وما زالت الكفيلة بحماية وحدته الجغرافية والبشرية، حيث أنّ التوازن الدقيق بين السنة والشيعة والمسيحيين إلى جانب الدروز أبطلَ كل المشاريع التوسعية والتقسيمية، كما أسقط كل مشاريع الهيمنة والتسلّط من قبل فئة على الفئات الأخرى.
ومن هنا إنّ التخويف بتمدّد مشاريع الفصل الجغرافية إلى لبنان في غير محلها، كما أنّ الدعوة لمشاريع الفصل الطائفية بحجّة التطورات الداعشية في غير محلّها أيضاً. لا بل إنّ التطورات السورية، وأخيراً العراقية، أعادت الأمل إلى نفوس اللبنانيين بأنّ مشاريع الغلبة والهيمنة شارفت على السقوط، وأنّ الدولة المعلّقة منذ العام 1969 ستعيد دورها واعتبارها... قريباً.