في زمن أحوج َما نكونُ فيه إليه، رحلَ زارعاً في قلوب المحبّين أحزاناً جمعت كلَّ أحزانِ التاريخ، رحلَ والصلاةُ بين شفتيْه وذِكْرُ الله على لسانه وهمومُ الأمة في قلبه، بعد 75 سنة قَضَاها جهاداً واجتهاداً وتجديداً وانفتاحاً والتزاماً بقضايا الأمة ومواجهةً لكلّ قوى الاستكبار والطغيان.
ولد السيد محمد حسين فضل الله في مدينة النجف الأشرف جنوب بغداد في تشرين الثاني عام 1935. وتتلمذ على يد كبار أساتذة الحوزة العلمية في النجف الأشرف أمثال المرجع الديني السيد أبو القاسم الخوئي، والسيد محسن الحكيم ، والسيد محمود الشاهرودي، والشيخ حسين الحلي.
في العام 1966 عاد إلى لبنان ليؤسس حوزة المعهد الشرعي الإسلامي وجمعيات خيرية ومبرات عديدة للأيتام، عرف السيد فضل الله بفتاواه المتنورة وأمتلك الجرأة العلمية، واشتهر بآرائه الاجتماعية والدينية المعتدلة، حيث أصدر عدة فتاوى وآراء دينية بارزة، من بينها تلك التي تحظر على الشيعة عادة ضرب الرؤوس بآلات حادة أثناء مراسم عاشوراء إحياءً لمقتل الإمام الحسين (ع) وكان أوّل من دعا إلى إثبات هلال شهر رمضان من خلال الأرصاد وعلم الفلك. كما أصدر عدة فتاوى ضد جرائم الشرف، وأصدر فتوى شرعية بحرمة سبّ الصحابة وأمهات المؤمنين.
وعُرف الراحل بأنه مرجعية دينية مستقلة عن المرجعيات الشيعية في مدينة قم الإيرانية والنجف العراقية. وتميز بتجربة فقهية وأصولية متميّزة جعلت منه مجدّداً في هذا العالم، كان صاحب القلب الكبير والصّدر الرّحب الّذي يتّسع للنَّاس جميعاً، حتى لأولئك الذين أعمى الحقد والحسد قلوبهم.
إنَّه فضل الله اسمٌ على مسمى الفضل الّذي منّ به الله على هذه الأمّة الإسلاميَّة، حيث فتح لها باباً على جرأة العلم وحريّة الكلمة، في زمنٍ بات يخشى الكثيرون من إطلاق الكلمة التي اقتنعوا بها.
وفي يوم الأحد 4-7-2010م، فقدت الأمّتان العربيّة والإسلاميّة، الإمام المجدّد والمرجع الدينيّ الكبير، المجاهد السيّد محمد حسين فضل الله، عن عمرٍ يناهز الخمسة وسبعين عاماً.
وترك ما يزيد على 120 كتاب، لتمثّل معالم المنهج الفكريّ والمشروع الحضاريّ للإسلام، كما يراه السيّد فضل الله. بالإضافة إلى كتب الشعر الكثيرة التي تُعتبر آيةً من جمال الفن الأدبي الملتزم.
وقد كان المرجع مدرسةً متميزةً حاولت أن تشقّ لها طريقاً مغايراً خارج المألوف، هزّ الواقع الإسلاميّ بآرائه الجريئة والمخالفة للمشهور، وهذا كلّه من أجل إعادة قراءة التَّجربة الإسلاميَّة، ونقد الذّات وتفكيكها بعد أن كانت أسيرةً للمسلَّمات التاريخيَّة والخرافية، التي ليست من الإسلام في شيء.
ومن أقوال بعض الشخصيات المعروفة في سماحته:
الكاتب والمفكّر محمّد حسنين هيكل قال فيه: "السيّد فضل الله إنسان لا تستطيع أن تختلف معه، وهو مظلومٌ أن يبقى في لبنان، لأنّه مرجعيّة إسلاميّة كبرى".
المطران الياس عودة (متربوليت بيروت وتوابعها للرّوم الأرثوذكس): "روحيّة الحوار عند العلامة فضل الله تخاطب القلب، لأنّها تجيء من السّماحة التي ما برح يستلهمها وقد دعي بحقّ صاحبها".
منصور الرّحباني(موسيقي لبناني شهير): "يا سيّد العلماء، متحدّر أنت من سلالة إضاءات الوجود في خير أمّة أخرجت للنّاس، من تاريخ عبيره سيوف ودماء شهدت لله والحقيقة".
السّفير الإيطالي في لبنان، (جوسيبي دي ميكاليس دي سلنغللو): "المكانة التي يتحلّى بها العلّامة محمد حسين فضل الله، هي ثروةٌ للبنان واللّبنانيّين، نظراً إلى مزايا الرّجل الكبير، وتفهّمه الواسع لواقع الأمور، وجرأة تفكيره، والحرّية الّتي يتحلّى بها في التّعبير عن مواقفه وآرائه".
الصّحافيّ والكاتب البريطانيّ روبرت فيسك "شخصٌ مثل المرجع الدينيّ الشّيعي، السيّد محمّد حسين فضل الله، هو فيلسوفٌ إلى جانب كونه داعيةً إسلاميّاً عالميّاً".
وهو من علمنا الانفتاح على الآخر وكسر قيد العصبية العمياء عندما قال: "خطورة التعصّب للدّين، هو أن نعطي التعصّب معنى القداسة، أن تقدّس عصبيّتك، عند ذلك لا يمكن أن تنفتح على دينك، لأنّك تستبدل الوطن بالدّين، والدّين بالعصبيّة".
ولا زالت الأمَّة يوماً بعد يومٍ، تقدّر لسماحة السيّد حلمه وعلمه وفكره، ولن يخبو ذكر هذا العالم الكبير ما دام في الأمَّة عقول تفكّر وعيون تقرأ، فحضوره لا يمحوه الغياب، والعظماء لا يموتون...
نهلا ناصر الدين