شهدت البيئات «السلفية الجهادية» تجاذباً حاداً بعد إعلان أمير «داعش» أبو بكر البغدادي «الخلافة». واذا كان الداعية الأردني أبو محمد المقدسي، الذي أُفرج عنه من السجن قبل أسابيع، أعلن استمرار انحيازه إلى «جبهة النصرة» ورفضه «خلافة» البغدادي، إلا أن من الواضح أن «داعش» وبعد «إنجازاته» العراقية صار أكثر جاذبية لكثيرين من «الجهاديين» من حول العالم. انشقاقات كثيرة شهدتها «النصرة» أخيراً لمصلحة تنظيم «الدولة» في العراق، ويتوقع مراقبون مزيداً من الانشقاقات. (للمزيد)
وإذا كانت عراقية «داعش» مأخذاً على التنظيم في بيئة السلفيين، إلا أنها «باب الخلافة» بحسب مناصريه، وما إعلانها سوى «مقدمة لضم مزيد من المساحات في الإقليم». وعراقية «داعش» الواضحة في هوية أمرائه وفي غلبة المقاتلين العراقيين فيه، يبدو أنها بدأت تظهر في الفارق بين ممارسات التنظيم في سورية وممارساته في العراق. فهو في الأولى أشد بطشاً وأكثر تمسكاً بتطبيق «الحدود»، بينما يبدي في العراق مرونة في علاقاته مع الفصائل التي تقاتل الجيش العراقي، ومع العشائر والسكان.
وواضح أن قدرة التنظيم الكبيرة على التجنيد وعلى المشاركة في المعارك، مكّنته من شباب التيار «السلفي الجهادي»، فيما يبدو أن الجيل الأول والثاني من هؤلاء يميلان في الانقسام الى «جبهة النصرة»، بالتالي إلى تنظيم «القاعدة» الدولي. في الأردن يبدو هذا الأمر واضحاً، وفي العراق أيضاً. ويبدو كذلك أن البغدادي ورث «أبو مصعب الزرقاوي» في بيئة «السلفيين الجهاديين»، خصوصاً لجهة خلاف الأخير مع أيمن الظواهري ومع «أبو محمد المقدسي»، في تقديم قتال الشيعة على محاربة الأميركيين.
في العراق اليوم، هذا الشعار أكثر جاذبية من شعارات «القاعدة»، ويملك القدرة على جذب المقاتلين والأنصار من خارج بيئة «الجهاديين» ومن أبناء العشائر. ويبدو أن «داعش» «باشرت» بناء قوة تأتمر بها من المتطوعين هم من خارج بيئتها المباشرة، ويتولون القتال باسمها، على أن يتم دمج «من يصلح» منهم في جسم التنظيم لاحقاً.
«الحياة» أعدت تحقيقاً من حلقتين، يُنشر اليوم وغداً حول بنية «داعش» في العراق وعلاقاته مع العشائر والفارق بين ممارساته في العراق وممارساته في سورية، وعن تحول الشرائح الشابة من «السلفيين الجهاديين» في الأردن من تأييد «النصرة» وفق ما أفتى به شيوخهم، الى تأييد «داعش» بفعل «إنجازاتها» في العراق… علماً أن السلفيين الجهاديين الأردنيين هم من أكثر أقرانهم في الدول الأخرى مساهمة في القتال في سورية والعراق، إذ تُقدَّر أعدادهم هناك بحوالى 1200 مقاتل، بالإضافة إلى أن أكثر من 300 أردني قُتلوا في سورية.
أبو بكر البغدادي ستالين «القاعدة»… و «فقه التوحش» منيفستو التنظيم
تنظيم «داعش» في سورية غيره في العراق، والمقصود بهذا التمييز هو الممارسة. هذه الحقيقة يبني عليها كثر من «السلفيين الجهاديين» ومن المراقبين تفسيرهم لهوية التنظيم ولبنيته، وتُحدَّد على ضوئها توقعات لمستقبله.
في سورية هو قوة غريبة، وهو أكثر عنفاً، ولا ضابط لممارساته. الإمارة التي أقامها في مدينة الرقة شرق سورية، مارس فيها منتهى العنف. أقام الحد على العشرات من أبناء المدينة، وفرض البرقع على النساء ومنع التدخين حتى داخل المنازل. والقوة التي انتدبها لتنفيذ هذه المهمات هي من غير السوريين، أي «مهاجرين» عرباً وغير عربٍ لا يمتون للمجتمع المحلي بأي صلة. والأهم من هذا كله، أنه راح يكفر الفصائل المقاتلة من الجيش الحر ومن الفصائل الإسلامية، وبعضها يشبهه لجهة هويته الدينية ونموذجه السلفي.
أما في العراق، فالوضع حتى الآن مختلف تماماً، فقد قاتل «داعش» إلى جانب العشائر وحزب «البعث» والصوفيين، واندرج معهم في تشكيلات لإدارة المناطق التي تم انتزاعها من الجيش العراقي، لا بل إنه ترك لغيره من هذه الفصائل مهمة إدارة الموصل، على رغم أنه كان القوة الرئيسية التي دخلت المدينة بعد انهزام الجيش العراقي فيها. ولعل الفارق في نموذجي «داعش» في سورية وفي العراق يتكثف أكثر لجهة علاقة هذا التنظيم بالعشائر في كلا البلدين. ففي سورية زجر التنظيم العشائر وأجبرها على المبايعة ولم يُقم اعتباراً لبنيتها، في حين أقام مع العشائر العراقية علاقات تراعي الكثير من تقاليدها، وأوكل العلاقة بكل عشيرة إلى عناصر منه يعودون بأصولهم إلى العشيرة نفسها.
هذا الفارق مرتبط بهوية «داعش»، فالتنظيم عراقي قبل أن يكون «سلفياً جهادياً» دولياً. قيادته عراقية بالكامل، وكذلك أمراؤه المحليون، ومعظم مقاتليه. وإذا كانت «سورية» «جبهة النصرة» هي الموازي «الهوياتي» للتنظيم العراقي، فارتباط الأخيرة بتنظيم «القاعدة» الدولي تولى مهمة وصلها بـ «السلفية الجهادية» الدولية، وجنبها شُبهة الوطنية التي تعتبر نقيصة جوهرية في ثقافة هذا النوع من التنظيمات. فعراقية «داعش» هي مأخذ عليه، إذ يشير شيخ «النصرة» الأردني الذي رفض الكشف عن اسمه، إلى أن «كل مجلس شورى الدولة من العراقيين، وقسم كبير منهم كان من ضباط الجيش العراقي… وهذا ليس مأخذاً على التنظيم، ولكنه يُنبىء بأشياء كثيرة، لعل أهمها الطريقة البوليسية في إدارة العلاقات داخل التنظيم».
أما الباحث حسن أبو هنية فيجزم بأن «النصرة تشومت» (من الشام) وأن «الدولة تعرقنت»، ويقول: «على خلاف الولادتين الأولى والثانية لتنظيم «القاعدة»، فإن الولادة الثالثة (داعش) تشهد تركيزاً مكانياً، وهو ما سيؤدي إلى تحولات جوهرية في هوية التنظيم». وبينما يُشكل «المهاجرون» عصب «داعش» في سورية، يُشكل العراقيون عصبها في العراق، وهو أمر يُفسر أيضاً التفاوت الكبير في مستوى العنف الممارس في حق المجتمعات المحلية، ذاك أن «المهاجرين» أشد بطشاً وأقل ميلاً للتسويات المحلية، وهم غرباء عن التقاليد وينزعون لتكفير أي طقس محلي، ولإحالته إلى «هرطقات العامة» وجهلها، فيما تُشكل العناصر المحلية لـ «داعش» في العراق قناة قبول وميل للتسوية. ويلاحظ الباحث في العشائر العراقية يحيى الكبيسي أن «داعش» أكثر مرونة من تنظيم «القاعدة» الذي كان سبقه في العراق، في العلاقة مع العشائر، ويؤكد أن «فيه عناصر من كل العشائر في شمال العراق وغربه وهؤلاء العناصر هم من يتولى الصلة بينه وبين هذه العشائر. العلاقة مع عشيرة الجبور يديرها عناصر من العشيرة، ومع شمر والدليم وغيرها».
«الخليفة»
أبو بكر البغدادي، وهو اليوم «الخليفة» بعد أن أعلن «داعش» خلافته، عراقي من مدينة سامراء ومن عشيرة البدري، واسمه الحقيقي إبراهيم عواد إبراهيم، وهو خريج كلية الشريعة في بغداد، ويقول أستاذ درس على يديه إن الشاب لم يكن سلفياً، وتخصص في التجويد، ولا علاقة له بغير التلاوة. وقادة «داعش» الآخرون في معظمهم ضباط سابقون في الجيش العراقي المنحل، ومن أبرزهم أحمد العلواني وأبو مهند سويداوي وأبو علي الأنباري. ويُقلل عراقيون كثر من أهمية «مبايعة» العشائر في غرب العراق وشماله للبغدادي، ذاك أن العشائر نفسها كانت تبايع نوري المالكي ومن قبله صدام حسين. فالأهم بالنسبة إلى هذه البنى الاجتماعية (العشائر) هو علاقتها مع السلطة مهما كانت هذه السلطة، وشيوخ العشائر، الجدد منهم وغير الجدد، يعرفون أن سلطاتهم مستمدة من علاقتهم بالسلطة، وهم سريعو التبدل ويجيدون الانقلاب على أي سلطة متداعية. وبهذا المعنى يقول الكبيسي إن الأصل هو سيطرة «داعش»، ومبايعة العشائر هي نتيجة لهذه السيطرة وليست سبباً لها.
يملك «داعش» في العراق اليوم كل مواصفات القوة المحلية. قيادة محلية وعلاقات مع فصائل محلية واستثمار في العشائر. لكنه استحضر أيضاً فقهاً سلفياً يُعزز من «شرعية» نزوعه المحلي، وهو ما يُسمى في أدبيات «السلفية الجهادية» البعد المكاني للخلافة. فـ «داعش» يقول بـ «الشوكة والغلبة»، أي أنه يطمح إلى السيطرة المكانية وإعلان الخلافة على المنطقة التي يتم انتزاعها من الكفار. في حين يعتمد «القاعدة» وفرعه السوري، أي «النصرة» على «التمكين» وعلى «الحكم السلطاني»، وهي سلطة مبنية على «التعاقد لأهل الحل والربط ومع أصحاب الشوكة» وليس الفرض بالقوة.
ويُفصل داعية «جهادي» قريب من «جبهة النصرة» الخلاف الفقهي بين الجماعتين على النحو الآتي: «الأصل الفقهي للخلاف هو مسألة تنصيب خليفة للمسلمين بعد قرن من غياب الخلافة. هم نصّبوا الأخ أبو بكر خليفة للمسلمين وطلبوا من الناس مبايعته، وكفروا من لم يبايعه. لذلك، حصل قتال مع الفصائل المجاهدة في دير الزور. نحن نرى أننا ما زلنا فصيلاً مجاهداً من أجل إسقاط النظام في سورية، وسنبقى كذلك إلى أن يصبح هناك شورى مع أصحاب الشوكة ليتفقوا بعد ذلك على من يحكم. ليس هاجسنا أن نحكم الناس بالسيف، إنما أن نحكمهم بالشرع». ويشير الداعية إلى خلاف آخر بين «النصرة» و «داعش»، فيقول: «الخلاف الفقهي الثاني يتمثل بوجوب التحاكم لدى محكمة شرعية عند النزاع، بخاصة في مسائل الدماء، ونحن نعتبر أن ترك هذا التحاكم كفر. وقد امتنعت الدولة عن التحاكم بحجة أنها دولة وأن على الناس أن يتحاكموا عندها، ومن أبرز ما أثار هذه المسألة كان مقتل أبو خالد السوري، الذي من المرجح أن تكون الدولة هي من قتله».
ويلاحظ الداعية «اختلاف سلوك الدولة في العراق عنه في سورية لجهة التلطف مع العشائر العراقية وعدم قتالها، بخلاف الفصائل في الشام»، لكنه يُرجح أن يكون ذلك مرحلياً بانتظار «التمكين»، وليس تراجعاً عن أخطاء ارتكبت في سورية.
عراقية «داعش»
كل المؤشرات تذهب باتجاه تقدم عراقية «داعش» على مضامين «السلفية الجهادية الأممية». ويُشبه «جهادي» أردني من أصول يسارية هذه المسألة بالخلاف بين ستالين وتروتسكي، فبينما كان يريد الأول تثبيت السلطة (الخلافة)، لنفسه، كان الثاني يُقدّم على مهمة بناء الدولة مسألة تصدير الثورة. هذا التشبيه وإن كان يحتاج إلى الكثير من التدقيق، إلا أنه قد يفيد في مسألة تفسير الطموح إلى بناء السلطة. فالبغدادي أعلن «الخلافة» وأوجد لها أرضاً (شمال سورية والعراق، وغرب الأولى وشرق الثانية)، وحدد لها عصباً عراقياً، وأوجد لها تحالفات محلية. ولعل اللحظة التي تُعلن فيها «ديكتاتورية البروليتاريا» في «موديلها» الستاليني تُذكر، وإن على نحو غير دقيق، بلحظة استحضار «فقه التوحش» في موديله الـ «داعشي»، ذاك أن «أبو بكر الناجي»، وهو صاحب هذا الفقه الذي يتبناه «داعش»، يشير إلى أن لحظة قيام الخلافة، هي اللحظة التي تخرج فيها العامة من ضوابط الدولة الحديثة الكافرة فـ «تتوحش»، وفي هذه اللحظة على القادة أن يتولوا إدارة هذا التوحش بهدف إقامة الخلافة.
ومسألة أن «داعش» في سورية هو غيره في العراق، أدت إلى مفارقتين، الأولى أن «النصرة» ومن ورائها «القاعدة العالمية» لا تعترض على «داعش» العراقي، لا بل تقول إن نموذجها هناك، هو نفسه نموذج «النصرة» في سورية، ومن مظاهره إقامة تحالفات محلية والابتعاد عن التكفير ومراعاة تقاليد العشائر والسكان المحليين. وحين يُردد شيوخ «النصرة» هذه الوقائع، لا يخلو تردادهم إياها من إعجاب بـ «الإنجاز»، وهو إعجاب ممتزج بمرارة الخصومة والدماء بين الجماعتين. فقد أقام البغدادي سلطته على مساحات واسعة من الأرض. هذه السلطة تخاطب خصومه «الجهاديين» الذين لطالما حُرموا منها.
أما المفارقة الثانية فهي أن رجال «القاعدة» من غير مناصري البغدادي يُدركون أن عراقية «خلافته» مسألة ستُقدم الهم العراقي على بقية هموم الخلافة وهو ما سيريحهم في نهاية المطاف. ذاك أن «داعش» سيغرق في الهم العراقي على نحو ما أصاب جماعات «جهادية» أخرى في العالم، كحركة «طالبان» التي أعلنت الملا عمر خليفة للمسلمين، إلا أن خلافته لم تتجاوز أفغانستان، وجماعة «الشباب المجاهد» في الصومال، والتي يغلب الهم الصومالي همومها «الجهادية»، وجماعة «لشكر طيبا» الباكستانية الغارقة في المسألة الكشميرية حتى أذنيها. وانجذاب أي جماعة جهادية إلى قضية محلية سيُفضي في نهاية المطاف إلى «خلافة» محلية، وسيُصدع خطابها الأممي.
منطق مختلف
فرع «داعش» السوري يعمل الآن وفق منطق مختلف. ثمة ما يُشبه الاحتلال، ذاك أن «الدولة» أقامت خلافتها في العراق، وما على سورية إلا أن تقبل وتنضم. وحدة قصرية لطالما شهد التاريخ الحديث لبلاد الشام نماذج منها، وكانت سورية فيها الدولة الأصغر التي من المفترض أن تقبل الوحدة. في عام 1958 مع مصر، وفي عامي 1963 و1964 مع العراق. وكان السوريون، حتى الوحدويون منهم، هم من يتولى لاحقاً إنجاز الانفصال.
يلمس من يلتقي دعاة «السلفية الجهادية» من غير مؤيدي «خلافة» البغدادي حنقاً «وطنياً» على «داعش» وعلى ادعائه الحق في إقامة «الخلافة» خارج العراق. ولعل اختراق البغدادي هذه البيئة بنموذجه، يستمد قوته من جاذبية السلطة والحاجة إلى الاندراج في قنواتها، وأيضاً في كون البغدادي امتداداً لمسار في «القاعدة»، أو لخروج عنه كان قام به أبو مصعب الزرقاوي عندما قدم قتال الشيعة على قتال الأميركيين في العراق.
ومسألة تقديم «قتال الشيعة» تردنا في حالة «داعش» أيضاً إلى المضامين العراقية للصراع، ذاك أن التشيع هناك هو هوية مناطقية وعراقية، والنزاع حوله نزاع سياسي وليس مذهبياً، على رغم الشحنات الطقسية التي تشوبه. والمضمون الطائفي للمعضلة العراقية مختلف عن المحتوى المذهبي للصراع في سورية، ومن الصعب دمج الصراعين، على رغم القرابة السياسية بين النظامين في كلا البلدين. ولعل ما كشفه الناطق باسم «داعش» أبو محمد العدناني في رده على تنظيم «القاعدة» لجهة طلب الأخير منه مهادنة إيران، وقصر القتال على الأميركيين ما يُظهر مشهد الانقسام بين الجماعتين على نحو أوضح.