الهواجس زائد المخاوف زائد التخويف زائد الحملات المبرمجة، تجعل من بيانَين صادرَين عن بلديتَي «عبرا» و»طرابلس» وكأنّهما بداية أسلمَةٍ للبنان، فيما الوقائع دلّت إلى أنّ هذين البيانين لم يجِدا من يدافع عنهما، وتمّ سحبُهما نتيجة المواقف السُنّية تحديداً الرافضة لهذا الأسلوب والنمط والممارسة.
يقتضي التمييز بدايةً بين ردود الفعل العفوية المسيحية والإسلامية الحريصة على طبيعة لبنان التعددية القائمة على مبدأ الحرية بكل أبعادها، والرافضة تغييرَ وجه لبنان بممارسات تنقله من دولة مدنية إلى تيوقراطية، وبين الحملة المبرمجة المتعددة الأوجه التي تُشَنّ على الطائفة السنّية لتصويرها بأنّها منغلقة ومُتزمِّتة وإرهابية في رسالة مزدوجة: إلى المجتمع الدولي لعدم التعاون مع الطائفة السنّية وقياداتها، وإلى الأقلّيات على اختلافها بأنّ مصدر الخطر عليها مُتأتٍ من أهل السنّة، وأنّ ضمانتها ليست في دوَل لن تبصر النور، إنّما عبر مكوّنات أنظمة الممانعة: «حزب الله» في لبنان، النظام البعثي في دمشق، نظام المالكي في العراق...وما يسجَّل لمصلحة البيئة السنّية لا عليها، أنّه في ظلّ هذا المناخ الفتنوي المذهبي التعبوي الممتدّ على طول الدول العربية والإسلامية وعرضِها، لم يظهر في طرابلس وصيدا وغيرهما من المدن السنّية مَن يستميت في الدفاع عن هذين القرارين بأنّهما حقّ للمسلمين في شهر رمضان، ويفتح مواجهةً من طبيعة دينية وعقائدية وسياسية تحت هذا العنوان، ولا بل طغَت الأصوات السنّية المعترضة على هذين القرارين.
وما حصل بهذا المعنى ليس تفصيلاً ويؤشّر بشكل واضح إلى رجحان كفّة الاعتدال على التطرّف في المرحلة التي تشعر فيها الطائفة السنّية بأنّها مستهدفة في وجودها ودورها وحضورها وسُمعتِها وصورتها، ومن الطبيعي في هذه اللحظة بالذات أن تصدر دعوات دينية من هنا وهناك، وأن تتغلّب المشاعر المذهبية على المشاعر القومية والوطنية.
فأهل السنّة مستهدَفون في قضيتهم الأمّ في فلسطين، وفي لبنان منذ العام 1990 وتحديداً منذ اغتيال الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط 2005، وفي سوريا منذ قيام نظام البعث السوري، حيث لا يمكن التقليل من مشاعر الغضب التي تنتاب هذه الطائفة يومياً وهي تتفرّج على أهلها يُقتلون في سوريا في مجزرةٍ متمادية لم يشهَد التاريخ مثيلاً لها، وفي العراق الذي أقصى الحكم الذي نشأ على أنقاض البعث العراقي الطائفة السنّية عن السلطة وقام بتهميشها وتغييبها، فضلاً عن محاولات القضاء على الدور العربي وخطفِه لمصلحة أدوار أخرى بغية إبقاء الحرب قائمة وللحؤول دون السلام في هذه المنطقة من العالم.
ومن ثمّ لماذا تسليط الضوء على قرارين بلديَّين وبضع أصوات لا يتجاوز عددها أصابعَ اليد الواحدة دون التركيز على ردّ فعل السواد الأعظم من هذه البيئة الذين رفضوا هذين القرارين، علماً أنّهما لا يخرجان عن باب التمنّي لا الفرض، ولكن برزت مخاوف في المقابل، لا يمكن التقليل من جدّيتها، من محاولات استغلال قرارات من هذا النوع بغية تحويلها مع الوقت إلى أمر واقع وإخراجِها من كونها اختيارية إلى إلزامية.
وفي موازاة ذلك يجب أن تعكس هذه الدعوة ارتياحاً داخل بعض الأوساط المسيحية المتخوّفة من تغيير وجه لبنان من زاوية أنّها تشكّل مقدّمة ومبرّراً لقيام النظام الفدرالي الذي يرتكز على إعطاء صلاحيات واسعة للبلديات، إلى حدود التشريع في القضايا المتصلة بالأحوال الشخصية، وبالتالي الدعوات المماثلة يجب أن تعكس ارتياحاً واطمئناناً، لا خوفاً وهلعاً.
ومن المهم أيضاً في مجتمع تعدّدي كلبنان أن تعبّر فئات معينة عن رغبتها باتّباع أسلوب معيّن في العيش، ولكن شرط ألّا ينعكس سلباً على حياة شركائها في الوطن، ولذلك المشكلة ليست إطلاقاً في الأصوات الصادقة التي تصدر داخل بعض البيئات وتعبّر بصدق عن توجّه حياتيّ محدّد، إنّما المشكلة كلّ المشكلة هي في الطرف الذي يريد مصادرة القرار الوطني وإلغاء حق الجماعات الأخرى في أن تكون شريكة في الخيارات الوطنية.
فلا أحد يريد أو يستطيع إلغاء الآخرين في لبنان، ولكن هناك من يريد ويستطيع فرض شروطه على الآخرين، والتجربة منذ العام 1990 إلى اليوم أكبر دليل، وأمّا الأصوات التي طالبت «باحترام حرمة الشهر الكريم وخصوصية المسلمين الصائمين في عدم المجاهرة بالإفطار» فلم تصادر السياسة الخارجية للدولة اللبنانية، ولا الدفاعية والداخلية، وجلّ ما دعت إليه، قبل تراجعِها، هو احترام مشاعر فئة معيّنة، وإذا كان من خطورة في هذه المسألة فتكمن فقط في حال تطوّرها،
ولكن هناك من صادر ويصادر حقّ اللبنانيين بأن يكون لهم دولة سيّدة ومستقلة، وبالتالي المشكلة الفعلية هي مع «حزب الله» الذي يخطف القرار الاستراتيجي ويتمسّك بسلاحه غير الشرعي ويورّط اللبنانيين بحروب لا طائل لهم بها، ويستغلّ أحداثاً على غرار «عبرا» و»طرابلس» بغية تضخيمها وتخويف المسيحيين بها لحرفِ الأنظار عن سلاحه.
فأهمّية ما حصل في «عبرا» و»طرابلس» أنّه أثبتَ أنّ خطّ الاعتدال ما زال أكثريةً على رغم الظروف الموضوعية التي يفترض أن تجعل التطرّف أكثرية، علماً أنّ كلّ ما جرى لا يتعدّى حقّ فئة معيّنة في التعبير عن رغبتها في اتّباع نمط محدّد.