السؤال: في خضم هذه الأحداث التي تعجّ بها المنطقة، كثرت الآراء والاتجاهات والرؤى في تحليل الأمور وفهمها, وكلّ جهة صارت تفسّر الأحداث بما يناسب تفكيرها ومبادئها، فلم أعد أعرف الحقّ أين؟ ومع من؟ يقال: إنّ الشك بداية اليقين، والحمد لله على نعمة الشكّ، والسؤال هو أنّ الفتن السياسيّة هذه الفترة جداً خطيرة وصعبة، وأريد معرفة من يمثّل الحقّ؟ وأدافع عن من؟ وأتبنّى وجهة نظر من؟ أنا ضدّ التفرقة في أيّ شيء، ولكن لتوضيح مشكلتي, أنا عندي أصدقاء من كافّة الأطراف: سنّة وشيعة, من يقلّدون الشيرازي، ومن يقلّدون فضل الله، ومن يقلّدون السيد القائد، وممّن يقلّدون السيد السيستاني، والشيخ وحيد الخراساني، وحسب ما تعرفون كلّ شخص منهم ينظر للأمور من وجهة نظره هو، وحسب مبادئه، وكلّ يدّعي أحقّيته بالموقف الصحيح، وكثيراً ما دخلت في نقاشات دون أن أصل لنتيجة, أريد معرفة الحقّ مع من؟ أتمنّى من حضرتكم إفادتي ولو كان الأمر سياسيّاً ولكنّه ديني أكثر (ابنتكم فاطمة).
الجواب: أبسط وأوّل سؤال علينا أن نسأله لأنفسنا في هذه الحال هو: هل المطلوب منّي أن أعرف الحقّ أم المطلوب منّي أن أعمل ما هو الصواب، سواء كنت أعرف الحقّ أم لم أكن أعرفه؟ هنا في تقديري أحد مفاتيح الحلّ، فالعقل أحياناً يرهق الإنسان بمعرفة الحقيقة، والنزوع الروحي والنفسي للبشر يدفعهم دوماً للركض خلف اكتشافها، لكنّ اكتشاف الحقيقة ليس هو كلّ شيء، فهناك شيء آخر يرتبط أيضاً بموضوع راحة الضمير وطمأنينة الروح، وهو: ما الذي يجب عليّ أن أفعله؟ وهذا غير: ما هو الواقع الحقيقي المحيط بي؟ لأنّ سؤال: (ماذا أفعل؟) يمكن أن أوجّهه لنفسي وأنا عالمٌ بالحقيقة، كما يمكن أن أوجّهه لنفسي وأنا حائر، إنّ (ماذا أفعل) هو سؤال الضمير، إنّنا نتصوّر أحياناً أنّ الجواب عن (ماذا أفعل) مربوط دوماً بالحقيقة الخارجية المحيطة بي، لكنّ الصحيح أنّ عقولنا العمليّة يمكن أن تدلّنا على (ماذا أفعل) حتى لو لم أكن أعلم، فليس من ترابط بين (ماذا أفعل) و (ماذا أعلم) بهذا المعنى.
أنا أعيش في عصر فتنة أمواجها متلاطمة ولا حدود لها، تضرب في السياسة والأمن والأخلاق والعلم والمعرفة والثقافة والدين والسلوك وغير ذلك، وقد بذلت جهوداً لكي تتضح الصورة المحيطة بي، ولكنّني ـ حسب سؤالك ـ فشلتُ وما أزال متحيّراً، فبدل أن أظلّ أبحث دون جدوى، عليّ فوراً أن أوجّه لنفسي السؤال التالي: ماذا ينبغي لي أن أفعل حال كوني (لا أعلم = حيراناً)؟ بهذه الطريقة أخرج من قلق المعرفة إلى سؤال العمل، أخرج من العلم إلى العمل، ومن الحيرة الفكرية إلى الرؤية الفعليّة، ومن التفكير الزائد إلى العمل الرائد، بهذه الطريقة أتخلّص من الدوّامة التي أعيش.
لكن ماذا أفعل وسط كلّ هذا الجدل اللامتناهي الذي حيّر الكبار قبل الصغار، ولم ينجُ منه في كثير من الأحيان سوى الجهلة، لأنّهم لا يعرفون ألم الحيرة المعرفيّة؟ هذا السؤال يبدو الآن أكثر منطقيّة، لتتحرّري من قلق المعرفة، وتذهبي نحو تحديد الوظيفة العمليّة حال الجهل والفوضى والحيرة، لكن ماذا نفعل؟
هناك عدّة خطوات أوجز بعضها على شكل نقاط سريعة:
1 ـ أن أتفهّم أنّ في حياة البشر عصور قلق وحيرة، وأنّ هذا الأمر طبيعي، ولا بأس أن أقرأ التاريخ لأجد أنّ حياتي ليست بدعاً، بل مثلي عاش كثيرون فرضت عليهم الظروف من حولهم حيرةً تتلوها حيرة. وعليّ أن أفهم أنّ ما يحصل معي هو شكل من أشكال اختبارات هذه الدنيا، فلكلّ فرد ولكلّ أمّة عناصر اختبار تخضع لها، وقد قُدّر لنا أن نعيش هذا النوع من الاختبارات.
2 ـ اللجوء الروحي إلى الله سبحانه، فهو حبيبنا وطبيبنا، وهو الذي نأنس ـ دون الخلق ـ معه وبه، وهو الذي يشكّل لنا الأمل والمحبّة، وهو الرؤوف الرحيم، وأن نقول دوماً ونردّد قولَه تبارك وتعالى ـ وفي هذا الترديد آثار نفسية جيّدة ـ: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ﴾ (الزمر: 36 ـ 37)، كما نردّد قوله سبحانه: ﴿.. وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ (غافر: 44)، وكلّما قوّينا العلاقة الروحية بالله تعالى ساعدنا ذلك على وعي الأمور بشكل أفضل وعلى طمأنينة الروح وسكينتها، ليكون ذلك مفتاحاً لإدارة أمورنا بهدوء ورويّة.
3 ـ أن أعمل بما علمت، ولا أحكم بما أنا جاهل به، فكلّ شيء حصل لي منه علم يمكنني أن أدافع عنه وأعمل له وأضحّي في سبيله، وأمّا ما جهلته فعليّ التريّث فيه والصبر حتى يرزقني الله علم ذلك وفهمه، وبهذا أصون لساني ومواقفي وعملي عن السفه والحكم بجهل على الأمور.
4 ـ أن أجعل مرجعي في عصور الفتن هو العقل وكتاب الله، فأفكّر بنفسي ولا أسمح لأحد بالتفكير عنّي، ولا أجعل لأحد حقّ أن يتسلّط عليّ إلا بإرادتي الواعية، وهذا معنى ما جاء في الحديث عن الإمام علي عليه السلام: «كن في الفتنة كابن اللبون: لا ظهر فيركب، ولا ضرع فيحلب» (نهج البلاغة 4: 3)، أي لا تسمح لأحد أن ينتفع بك ويستغلّك ويمرّر مشاريعه على جهلك وبساطتك، ولا تكن وقود الفتنة، وليكن لك ثقة بوعيك، فما علمته عملت له، وما جهلته لم تسرع في اتخاذ رأي فيه، والسكوت خلاصٌ في هذه الحال والله يعذر حيث يعرف عدم التقصير. وعليك بالرجوع إلى كتاب الله فيما تفهم منه، كما الرجوع إلى المشتركات التي يلتقي عليها الجميع لتجعل منها أساساً يمنحك الطمأنينة وانطلاقة العمل.
5 ـ التخفيف من المناقشات التفصيلية التي لا جدوى من ورائها؛ لأنّ المجادلات في عصور الفتن تقسي القلوب وتميتها، وتفرّق الأحبّة، وتقطّع الأرحام، وتحدث العداوات، وتستثير سوء الظنّ، وتزيد من الخوف، فلا يدخلنّ أحدنا في نقاشات ليست لديه قناعة بجدوائيّتها، وليركّز طاقاته على ما هو نافع، ولتكن وحدة المسلمين وقيامة حضارتهم وأمّتهم، وجمع شملهم وتقوية شوكتهم، هو الأساس في كلّ ما نقول ونفعل.
6 ـ أن أفهم جيّداً بأنّ قناعتي بفكرتي لا تتمّ البرهنة عليها بواسطة اقتناع الآخرين بها عند عرضها عليهم، فنحن كثيراً ما نظنّ أنّ فكرتي صحيحة لأنّني أعرضها على الناس فيقتنعون بها، وأنّها غير صحيحة لأنّني عندما عرضتها لم يقتنعوا بها. ليست قناعة الناس معيار صحّة فكرتي دوماً، فليس الناس هم المعيار، بل المعيار هو كيف أرى الأمور، فعدم الاقتناع من الآخرين لا ينبغي أن يفرض عليّ ضعفاً في ثقتي بالفكرة التي أقول، تماماً كما لا يبرّر الانتقام منهم لأنّهم لم يقتنعوا بها. وهذا معناه أنّ الآخرين إذا لم يقتنعوا معنا فلا ينبغي الإصرار عليهم كي يقتنعوا وهدر طاقاتنا لإقناعهم، فعلينا الدعوة لما نؤمن به والباقي يكون بيد الله تعالى، لا أن نعيش التوتر بهدف إقناع الآخرين بما نراه صواباً.