لا يمكن مقارنة التفجيرات التي استهدفت البيئة الحاضنة لـ»حزب الله» ما قبل تأليف الحكومة بتفجيرات اليوم، وهذا لا يعني أنّ السعودية و»المستقبل» كانا خلف هذه التفجيرات، إنما تغييب تيار الاعتدال السنّي عن المسؤولية الوطنية سهّل التفجير.
الإقصاء والتهميش السياسيان يشكلان بيئة حاضنة للإرهاب الذي لا يمكن مواجهته إلّا عبر انتهاج سياسات عادلة ومتوازنة ترسي مناخاً من الاستقرار والسلام والاسترخاء بعيداً من التعبئة والتشنّج والشعور بالاستهداف.وما يحصل في العراق اليوم يشكل نموذجاً مدوّياً، إذ إنّ السيطرة الداعشية على معظم المناطق السنّية لم تُواجَه برد فعل سياسي من جانب الاعتدال السنّي، والسبب أنّ الغبن والقهر والاستبعاد والاستكبار يجعل مطلق أيّ بيئة على استعداد لتقبّل وتوسل أيّ شيء يمكن أن يساعدها على التخلص من الوضع القابعة فيه.
ولكن، ما هو أخطر من ذلك أنّ الشعور السنّي في العراق وخارجه يتجاوز غض النظر عن الاجتياح الداعشي إلى الترحيب المضمر بهذا التطور والاحتضان غير المباشر لهذا التحول الذي باعتقاد السواد الأعظم من هذه البيئة أنّ كل سياسات الانفتاح والحوار والديبلوماسية لاستعادة الحقوق المشروعة باءت بالفشل، ما جعل الركون إلى التطرّف لمواجهة التطرّف الوسيلة الوحيدة لرفع الظلم والإقصاء والتهميش.
وأيّ تجاوز لهذا الشعور هو خطيئة لا خطأ فقط، لأنه يشجع على تشريع التطرف وجعله بديهياً وطبيعياً، وقد أثبتت التجارب أنّ احتواء المناخات الأصولية لا يتم بالعصا الغليظة والأمن والعسكر، إنما باعتماد سياسات جديدة شكلاً ومضموناً، ولذلك الإصرار على مواصلة اللغة الخشبية نفسها في مواجهة الإرهاب، إن على مستوى محور الممانعة أو المجتمع الدولي، لن يؤدي سوى إلى المزيد من الشيء نفسه.
ومن هنا على إيران أن تعمد إلى تغيير جذري في سياساتها قبل فوات الأوان كونها ستكون الخاسرة الأكبر في حال اشتعال المواجهة الإسلامية-الإسلامية. فالأمور لم تعد تحتمل المزيد من المماطلة والتسويف، وأصبحت تتطلب قرارات جريئة تبعد الإسلام عن الفتنة المحتّمة.
والمدخل لهذه السياسة لا يكون عن طريق مساومات ومقايضات تسعى طهران إليها مقابل تعاونها في الملف النووي، إنما عن طريق حوار مباشر مع السعودية لمعالجة كل الخلل بدءاً من العراق وصولاً إلى فلسطين وما بينهما سوريا ولبنان واليمن والبحرين...
ومن المفيد التذكير أنّ «حزب الله» نفسه لجأ إلى تنازلات سلطوية من التخلي عن حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي أوصلها بوهج سلاحه إلى تأليف حكومة الرئيس تمام سلام وتجاوزه الثلاثية الخشبية والمعادلات الرقمية، وذلك بغية تنفيس الاحتقان السنّي ووضع سنّة الاعتدال في مواجهة سنّة التطرف، وهذا التكتيك نجح جزئياً بدليل تراجع التفجيرات وعودة الهدوء والاستقرار إلى المدن السنّية، ولكن ما حدث في العراق قلب الأمور رأساً على عقب مجدداً، ولا يبدو أنّ النهج المتبع كاف لمواجهة الحال المستجدّة.
ولعلّ الخطورة في الوضع الحالي أنه في حال استمرار التفجيرات والعجز عن التصدي لها ستنتقل المواجهة إلى داخل الشارع السنّي بين الاعتدال والتطرف، لأنّ المستهدف بهذه التفجيرات اليوم ليس فقط «حزب الله» بسبب مشاركته في القتال السوري، إنما «المستقبل» الذي أخذ على عاتقه مكافحة الإرهاب عبر الجلوس حول طاولة واحدة مع الحزب على رغم عدم انسحابه من المعركة السورية، كما السعودية التي وفرت الغطاء له بغية الفصل بين «حزب الله» بشقّيه اللبناني والإقليمي.
فاتهام السعودية بالتفجير هو حرام وجهل وافتراء، لأنّ المتضرر الأكبر من هذا الواقع اليوم في لبنان الرياض التي تشكل هذه التفجيرات رداً على تظليلها تأليف الحكومة وتغطيتها لخطوة «المستقبل» وسعيها لتحييد لبنان، خصوصاً أنّ عودة مناخات التشنج ستجعل «المستقبل» في مواجهة مباشرة مع جزء واسع من بيئته، الأمر الذي سيعرّيه شعبياً، وتحديداً في حال نجحت الانتفاضة السنّية العراقية في تحقيق أهدافها، وبالتالي لا مصلحة للرياض بخسارة أبرز حليف إقليمي لها في بيروت في اللحظة التي تعمل فيها على إعادة تكوين محور عرب الاعتدال بعد الانتخابات المصرية.
وأيّ تراجع في شعبية «المستقبل» داخل الشارع السني هو خسارة لخط الاعتدال في المنطقة ولبنان، ويخطئ قادة هذا التيار إذا ظنوا أنّ «كتافهم عراض» وأنّ المظلات التقليدية قادرة على مواجهة التطرف السنّي من دون تسمية الأشياء بأسمائها على قاعدة أنه لا يمكن التصدي للحالة الأصولية السنّية من دون التصدي للحالة الشيعية الأصولية، لأنّ مكمن الخلل في لبنان يتمثل بمصادرة «حزب الله» للقرار الوطني واستجلابه الحروب باسم مواجهة الإسرائيليين حيناً، وحيناً آخر تحت مسمى مواجهة التكفيريين.
فالمواجهة مع الإرهاب واجب انساني ووطني، إنما لهذه المواجهة أسس وقواعد لا يمكن تجاوزها، وفي طليعتها إقدام «حزب الله» على تنازل ليس من طبيعة سلطوية هذه المرة، إنما من طبيعة وطنية سيادية بفك ارتباطه الإقليمي بالأزمة السورية ومشتقاتها، وخلاف ذلك سيؤدي إلى تعميم هذا الإرهاب على كل الطوائف والساحات، ولن تجدي نفعاً خطوات تطويعية ستفتح الباب أمام الانهيار الاقتصادي في موازاة الإنهيار الأمني والسياسي.