المرجع الديني العلاّمة السيد علي الأمين
يعتبر شهر رمضان المبارك محطة سنوية لتطهير النفس وشحذ العزيمة وتقوية الإرادة وتربية الإنسان على الأخلاق الفاضلة و إضعاف نوازع الشر الموجودة فيه وإظهار عوامل الخير الكامنة في نفسه وتغليب النزعة الإجتماعية المتفاعلة مع الآخرين و المتحسسة لآلامهم و حاجاتهم على نزعة التفرد والإستئثار، لأن الصائم هو الذي صام لسانه عن الشر وامتنعت جوارحه عن المعاصي ليستخدمها في إصلاح نفسه وصلاح مجتمعه وهذه الأمور من التقوى التي جعلها الله ثمرة للصيام كما جاء في قوله تعالى عن الصوم:
( كتب عليكم الصيام كما كتب على الّذين من قبلكم لعلكم تتقون ).
فلم تكن كتابة الصيام للإمتناع عن الطعام والشراب، بل كانت لأجل الحصول على التقوى وهي أم الفضائل ومجمعها.
فالـتـقيُّ لا يكذب و كذلك الصائم والتقي لا يخون و كذلك يجب أن يكون الصائم والتقي هو الذي لا يغش ولا يخدع و لا يفعل الشر والتقي هو الذي يتحلى بـالسلـوك المستقيم وهو الذي يعدل في حكمه ومعاملاته وهو الذي ينصف الآخرين و هكذا يجب أن يكون الصائم.
و ما الإمتناع عن الطعام والشراب وبعض الشّهوات والرّغبات، إلا محاولة لتدريب الإنسان على أن يصل الى تلك الأخلاق الفاضلة التي تشكل دعامات المجتمع الصالح والسعيد وهكذا نعرف أن الصوم مدرسة تعلم الفرد الصبر الجميل والإرادة القوية والأخلاق الفاضلة التي تساعد على تحقيق أهداف الخير للفرد و الجماعة .
وهذه الغايات النبيلة والشريفة يساهم شهر رمضان في إيجادها من خلال تهذيب النفس و وقايتها من حالات الضعف والسقوط أمام المغريات وهذا يؤهل الإنسان للقيام بدوره خارج إطار ذاته في المجتمع الذي ينتمي أليه و الذي لا يكتمل بناؤه إلا بتظافر الإرادات الخيرة التي يحملها أبناؤه. فعندما ينتصر الفرد والأفراد على ذواتـهم وعلى أنانيـاتـهم، يكون بإمكانهم أن يحققوا الإنتصار في معركة بناء المجتمع الصالح الذي يتكافل أبناؤه بعضهم مع البعض الآخر .
ومن خلال الحكمة التي يهدف إليها تشريع الصوم في شهر رمضان المبارك، يتبيّن لنا وينكشف، أنّه ليس شهر التنافس على الطيبات ليلاً ،بعد الإمتناع عنها نهاراً.
و إذا كانت القاعدة العامة في الشريعة التي تحكم الطعام و الشراب هي قوله تعالى: ( كلوا واشربوا ولا تسرفوا إن الله لا يحب المسرفين )، فإن تطبيقها في هذا الشهر يكون أكثر تأكيداً من بقية الشهور لأنه الشهر الذي تتضاعف فيه الطاعات في أجرها وثوابها والسيئات في جرمها وعقابها.
وقد ورد في بعض الأخبار أن الإمام علي عليه السلام قد أفطر عند بعض بناته فجاءت له بصنفين من الطعام فطلب منها أن ترفع أحدهما وقال لها: أتريدين أن يطول وقوف أبيك بين يدي الله تعالى.
و إذا رجعنا الى سيرة المسلمين في الصدر الأول من الإسلام وعلى عهد رسول الله (ص)، نجد أن شهر رمضان ما كان له عندهم برنامج غذائي مخصوص، بل كان دون بقية الأيام و الشهور في المسألة الغذائية وكانوا يعتبرونه شهراً يحصلون فيه على الغذاء الروحي الذي يساعدهم على تحقيق الأهداف الكبرى لدينهم وأمتهم، ولذا تحققت في هذا الشهر المبارك جملة من الإنتصارات خارج إطار الذّات عادت بالخيرعلى المجتمع عموماً.
ففي شهر رمضان، تحقق الإنتصار في معركة بدر الكبرى، وتحقق فتح مكة وتحرير أهلها من الظلم و العدوان. وهذا يكشف عن أن المسلمين الأوائل فهموا الصوم على أنه مدرسة لمجاهدة النفس وإعدادها للجهاد الأكبر في سبيل الدين والإنسانية المعذبة والمقهورة.
ومن هنا فإننا نرى أن الكثير من الأمور التي تجري في أيامنا تحت شعار (رمضان كريم ) من المآدب والإحتفالات تتناقض مع الجوهر المطلوب من تشريع الصوم.
وقد تحول هذا الشهر بفعل تلك الاحتفالات، الى شهر الراحة والطرب، وإلى شهر المآكل و المآدب التي يُبعد عنها الفقراء الصائمون، و يدعى إليها الأغنياء المفطرون، لأنهم للأموال يدفعون !
و بدلاً من كونه شهر التضامن والتكافل مع الفقراء، وشهر توزيع الحقوق والمساعدات عليهم، أصبح شهر جمع الأموال بإسمهم ومن دون و كالة منهم ! وحولوه الى شهر للملاهي والأغاني كالخيم الرمضانية، التي كانت في الزمن السابق لتعليم القرآن وتدريس الأحكام. وفي كل هذه الأمور و أشباهها كالحزازير و الفوازير، إبتعاد كلي عن الأهداف المقدسة من الصوم ، وأرى في ذلك محاولة عن قصد أو غير قصد لتجويف شهر رمضان وتفريغه من محتواه الحقيقي وإبعاد المسلمين عن المدرسة السنوية الهادفة الى توحيدهم و تقوية إيمانهم و تسليحهم بالوعي الذي يشدهم الى تاريخهم المجيد المليء بمواقف العزة والكرامة .
_ و من جملة المظاهر التي تشوه معاني الشهر المبارك ما يسمى بحفلات عيد الفطر مع أن هذا اليوم قد جعله الله يوم شكر وتكبير على ما وفقنا فيه من الطاعة كما قال:
( و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون ) هو يوم إحتفال بإنجاز الواجب لمواصلة الدرب على طريق الطاعة والخير، وهو فرصة لمن أتم صيامه وخرج من هذا الشهر كيوم و لدته أمه طاهراً من الذنوب، ليستأنف مسيرة العمل الصالح. وقد جاء في الحديث: ( ليس العيد لمن لبس الجديد و لكن العيد لمن أمن نار الوعيد ) هو يوم زكاة الأبدان الذي يتواصل فيه مع الفقراء فيؤدي إليهم زكاة الفطرة التي تدفع عن صاحبها البلاء و تطفىء غضب الرب .
ويبقى الحديث عن هلال شهر رمضان وشهر شوال الذي يكون عيد الفطر في يومه الأول. ولا شك أن الأختلاف الذي يحصل في تحديد أول شهر رمضان و تحديد يوم عيد الفطر هو من المظاهر التي ينبغي التخلص منها لأنه من مظاهر الإنقسام ويؤدي الى وقوع الصائمين في الحرج. ويجب أن ننظر الى مسألة توحيد يوم الصوم ويوم العيد من زاوية التكليف الإلهي الخالي من الحرج والتعقيد لأن الله سبحانه و تعالى يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر والحرج والمشقة كما في قوله تعالى : ( يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ) وفي الحديث: ( يسّروا ولا تعسّروا).
ولا شك في أن الوصول الى يوم موحد فيه الكثير من اليسر الذي يتناسب مع أهداف الشرع المبين ولعل الكثير من أسباب الخلاف في أوجه تحديد الهلال ناشىء عن النظر إليه من زاوية من يكون مرجعاً للناس في تحديد الصوم وتحديد الفطر حتى يكون مرجعاً للناس فيما عدا ذلك من الأمور الدّينيّة و السياسيّة.
و بالإمكان أن تُقلص دائرة الخلاف إلى درجة الزوال، من خلال تشكيل غرفة موحدة لاستكشاف هلال شهر رمضان الذي يحدّد بداية الصوم وهلال شهر شوال الذي يحدد يوم عيد الفطر وسائر المناسبات الدّينيّة التي تهمّ المسلمين كمناسك الحج. ويتواجد في غرفة العمليات هذه، ممثلون لمختلف الجهات الدينية المعنية بالأمر ويمكن تزويدها بوسائل الإتصال بمختلف البلدان وبالآلات الحديثة التي يمكن بواسطتها تحديد مكان الهلال ورؤيته وليكن موقعها في مكّة المكرّمة قبلة المسلمين و بذلك نخرج من دائرة الخلاف و نصل الى يوم موحد لهذه المناسبات المباركة ذات الآثار الشرعية المهمة.
و لست أدري كيف يكون الاتّفاق على ذلك أمراً عسيراً على أولي الأمر في ظاهرة كونية محسوسة في الوقت الذي نسعى فيه الى الإتحاد والاتفاق على كثير من القضايا غير المحسوسة والتي تتضارب فيها الكثير من المصالح و تختلف فيها الآراء !
و كما يقول الإمام علي عن الإختلاف ( هل أمركم الله بالوحدة فعصيتموه أم أمركم بالفرقة فأطعتموه!) . اللهمّ اجعلنا من الّذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.