الإنقلاب الذي شهدته الساحة العراقية يستدعي إطفاء المحركات الرئاسية إلى حين تبلور صورة هذا المشهد وحجمه وكيفية التعامل الإقليمي والدولي معه، لأنّ ما قبل هذا التحوّل الاستراتيجي يختلف حكماً عما بعده، وبالتالي انطلاقاً ممّا ستؤول إليه الأمور يُبنى على الشيء مقتضاه.
الفراغ الرئاسي وقع، والطرف الذي يتحمّل مسؤولية عدم انتخاب رئيس جديد هو العماد ميشال عون الذي رفض تأمين النصاب، وبالتالي لا يوجد ما يستدعي الإسراع في تقليص فترة الفراغ، خصوصاً أنّ الأحداث العراقية مرشحة أن تقلب المشهد في المنطقة برمتها رأساً على عقب، حيث يصبح ما هو مستحيل اليوم ممكناً غداً، ولذلك فليتحمّل الطرف الذي راهن على عامل الوقت وضرب الدستور بعرض الحائط مسؤولية ما جنت يداه.وللتذكير فقط بأنّ سوء تطبيق اتفاق الطائف بدأ مع خروج العراق من حلبة التوازنات في المنطقة، وعودته اليوم المعطوفة على غياب الدور السوري ستؤدي إلى ترجيح كفة محور عرب الاعتدال في المنطقة ولبنان، لأنّ بوابة التغيير في الشرق الأوسط هي دمشق وتحديداً بغداد، فيما القاهرة مع السيسي ما زالت بحاجة إلى مزيد من الوقت لاستعادة دورها الإقليمي المطلوب، وبالتالي الانقلاب على الانقلاب الذي حصل مع إسقاط الرئيس صدام حسين لا بدّ وأن يبدأ من العراق.
فالعراق يشكّل المدخل لتصحيح المشهد الإقليمي بتوازناته وترسيماته، ولا بأس من ترقب مآل التطورات داخله قبل الإقدام على أيّ تسوية سياسية من أيّ نوع، أكانت من طبيعة رئاسية أو دستورية، لأنّ المنحى الذي ستسلكه التطورات العراقية كفيل بتبديل المعطيات ليس في بلاد الرافدين فقط، إنما في سوريا ولبنان أيضاً.
وإذا كان فريق 8 آذار في طليعة المتصدين لتحييد لبنان والنأي بالنفس و»إعلان بعبدا» والمصرين على ربطه بأحداث المنطقة، لأنّ هذا الفريق يشكل جزءاً لا يتجزأ من محور الممانعة ودوره يتجاوز لبنان إلى عمق الأحداث في المنطقة، فإنّ تمسك فريق 14 آذار اليوم بالتحييد الذي حوّله إلى قضية من قضاياه المركزية يصبح ضرباً من ضروب السذاجة السياسية، لأنّ مصير لبنان، وهذا ما أثبتته الأحداث، متصلٌ بمصير المنطقة، وبالتالي لا يمكن خروج لبنان من المستنقع الموجود فيه إلّا بعودة العراق وسوريا إلى الحضن العربي.
فالأولوية في هذه المرحلة ترقب الحدث العراقي وتجميد الملفات الداخلية بانتظار تبيان الاتجاه الذي سترسو عليه الأمور، خصوصاً أنّ من مصلحة فريق 8 آذار الوصول إلى تسوية رئاسية اليوم قبل الغد تحسباً لهذه التطورات التي يمكن أن ترجح كفة 14 آذار رئاسياً.
وفي هذا السياق، برزت مخاوف جدية من إدخال لبنان في مرحلة أمنية بغية دفع الحركة الاستقلالية إلى تقديم تنازلات وطنية تحت عنوان توفير أحزمة الأمان السياسية لحماية لبنان من تداعيات الأحداث الخارجية، لأنّ «حزب الله» سيحاول الحدّ من الخسائر العراقية والسورية عبر مواصلة إمساكه بالورقة اللبنانية، ولا يحتمل أيّ هزة سياسية في الوقت الذي يخوض فيه معركته السورية.
ولذلك من المتوقع أن ينتقل الحزب قريباً إلى مقاربة رئاسية شبيهة بالمقاربة الحكومية عبر تقديم تنازل يكون أبرز ضحاياه العماد ميشال عون الذي كان ذهب ضحية تسوية أكبر من لبنان في «الدوحة»، ويبدو أنه سيدفع مجدداً ثمن التطورت الإقليمية التي بدلت في أولوية أجندة الحزب الرئاسية، وبالتالي مِن الخطأ التسرّع في تلقف التنازلات التي سيقدم عليها الحزب قريباً، إنما انتزاع الحدّ الأقصى الممكن وإلّا استمرار الفراغ.
ومن البديهي أن تترافق التطورات العراقية مع تشدّدٍ سعودي تمثلت أولى طلائعه برفض أيّ تدخل خارجي في العراق أكان إيرانياً أم أميركياً، لأنّ واشنطن التي رفضت التدخل في سوريا لا يحق لها التدخل في العراق، فيما طهران التي تتدخل بشكل غير مباشر في بغداد قد يجرّ تدخلها المباشر إلى حرب إقليمية، فضلاً عن أنّ الرياض تدرك جيداً أنّ الأحداث العراقية تشكل معبراً لتسويةٍ في العراق وسوريا معاً على قاعدة تغيير النظام في دمشق وتعديل ميزان القوى في بغداد، وبالتالي لن تفوّت هذه الفرصة التاريخية التي ستعيد إيران إلى حجمها وتصحّح التوازنات التي اختلت.
وفي ظلّ هذا المشهد، الأولويةُ في لبنان يجب أن ترتقي إلى مستوى المرحلة التي دخلتها المنطقة والتهيّؤ لإعادة طرح القضية اللبنانية من باب استعادة السيادة للدولة وحدها، حيث إنّ هناك فرصة جدية لحلّ كل القضايا المشكو من تدخل إيران فيها بدءاً من الخليج وصولاً إلى القضية الفلسطينية مروراً ببيروت ودمشق وبغداد.