ليس الانقسام السياسي الحاد بين 8 و14 آذار هو الذي حال دون انتخاب رئيس للجمهورية، وهو انقسام كان دائماً بين اللبنانيّين نتيجة صراع المحاور الذي لم يستطع لبنان الخروج منه عام 1943 الى اليوم بدليل أنه عندما حصل تفاهم سعودي – ايراني تشكلت حكومة الرئيس تمام سلام ولو بعد مرور 11 شهراً على أزمة تشكيلها. وما لم يحصل مثل هذا التفاهم فقد لا تجرى انتخابات رئاسية لأنه إذا كان في الإمكان الاتفاق على توزيع الحصص في تشكيل الحكومة فإنه يصعب جعل رئيس الجمهورية حصصا موزعة بين داخل وخارج...
إن الانتخابات الرئاسية لو أنها كانت صناعة لبنانية صافية لما كانت تواجه ما تواجهه من تجاذبات محلية واقليمية ودولية، إنما هي صناعة خارجية. فانتخابات الرئاسة عام 1943 كانت بين حزبين رئيسيين في البلاد هما: حزب الكتلة الوطنية وحزب الكتلة الدستورية، وكانت أيضاً صراع نفوذ بين فرنسا وبريطانيا، ثم كانت تنافسا بين مرشحين اثنين هما كميل شمعون وحميد فرنجيه، وقد فاز عليه شمعون بأصوات نواب طرابلس بتأثير من رئيس سوريا يومذاك أديب الشيشكلي المتأثر بدوره بالنفوذ البريطاني. وانقسم اللبنانيون بين من هم مع اللواء فؤد شهاب ومن هم ضده ففاز شهاب بتوافق أميركي مع الرئيس عبد الناصر وخلفه شارل حلو بتوافق لبناني – خارجي. ثم انقسم اللبنانيون بين مرشحين هما: سليمان فرنجيه والياس سركيس ففاز فرنجيه عليه بصوت واحد وكانت تلك الانتخابات صناعة لبنانية للمرة الأولى. وكان انتخاب سركيس رئيسا للجمهورية نتيجة صراع سوري – فلسطيني، فالرئيس حافظ الأسد كان يدعم سركيس ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات لم يكن له مرشح فدعم تعطيل نصاب جلسة الانتخاب بقصف "فيلا منصور" المقر الموقت لمجلس النواب. وتم انتخاب بشير الجميل رئيساً بتأثير اسرائيل إذ ان اسرائيل كانت قد اجتاحت الجنوب وبلغت العاصمة بيروت، وخلفه في الرئاسة بعد اغتياله شقيقه امين بتوافق لبناني وقبول اسرائيلي. وتم انتخاب رينه معوض رئيسا بتوافق عربي، وبعده كرت سبحة انتخاب الياس الهراوي وبعده العماد إميل لحود بقرار سوري والتمديد لهما بقرار سوري ايضا لأن لبنان كان خاضعا للوصاية السورية. اما انتخاب العماد ميشال سليمان فتم بتوافق عربي – دولي. والسؤال الآن هو: بين مَن ومَن سيتم التوافق هذه المرة على انتخاب رئيس للجمهورية؟
الواقع ان الانتخابات الرئاسية لو أنها كانت صناعة لبنانية صافية لأمكن التوصل بين 8 و14 آذار الى اتفاق على مرشح أو صار انتخاب رئيس من بين المرشحين الكثر، الا انها انتخابات هي في واقعها بين خطين سياسيين: المحور الايراني ومن معه، والمحور السعودي ومن معه. وبما ان توازن القوى بين 8 و14 آذار هو توازن سلبي حال ويحول حتى الآن دون التوصل الى اتفاق على مرشح او على انتخاب رئيس للجمهورية من بين المرشحين المعلنين وغير المعلنين لأن التقارب بين السعودية وايران لم يتم بعد كما تم قبلاً فولدت حكومة سلام.
فمتى يتم هذا التقارب، وإذا طال هل يتم التوصل الى اتفاق بين 8 و14 آذار إن لم يكن على مرشح فأقله على تأمين نصاب جلسة الانتخاب وليقترع النواب لمن يشاؤون ويعلن فوز من ينال الاكثرية النيابية المطلوبة فتكون الانتخابات عندئذ صناعة لبنانية بعدم ممانعة أي خارج، أم أن قوى 8 آذار ستظل مصرة على تعطيل النصاب إذا لم تضمن فوز من تريد للرئاسة الاولى، حتى اذا ما اصبح انتخاب الرئيس من صنع الخارج كانت لإيران كلمة في اختياره ويصبح هذا الاختيار ورقة ضغط ومساومة سواء في اتفاق اميركي – ايراني او في اتفاق سعودي – ايراني؟
ويبدو ان قوى 8 آذار يتجاذبها رأيان: رأي يقول بالاتفاق مع قوى 14 آذار على مرشح له مواصفات تشكل قاسما مشتركا بينهما ويكون هذا التوافق بداية إخراج لبنان من صراعات المحاور التي لم يعد في الاستطاعة تحمل تداعياتها خصوصا بعدما أصبحت الحرب في سوريا والعراق وليبيا واليمن صراعا بين قوى الاعتدال وقوى التطرف لا بل مع الاصولية والارهاب اللذين تهدد اخطارهما ليس دول المنطقة فحسب بل دول العالم، ورأي آخر يقول بالاستعاضة عن الانتخابات الرئاسية اذا تعذر اجراؤها بإجراء انتخابات نيابية قبل الرئاسية. لكن تبين ان الاتفاق على اجراء هذه الانتخابات قبل الاتفاق على قانون جديد قد يكون أصعب من الاتفاق على الانتخابات الرئاسية.
إن قوى 14 آذار قالت كلمتها في الانتخابات الرئاسية وهي وجوب اجرائها بدون تأخير نظرا لخطورة ما تتعرض له المنطقة من أخطار متسارعة، وعلى قوى 8 آذار ان تقولها ايضا كي يستطيع الشعب ان يميز بين الخيط الابيض والخيط الاسود، وبين حق يراد به باطل وباطل يراد به حق...