أياً تكن المسبِّبات فإن ما حصل من سيطرة العناصر المعارضة للسلطة الشيعية في بغداد على معظم المنطقة السنية الشمالية الغربية والوسطى هو عملية نظّمتها دولٌ حتى لو كانت مستندة إلى رفض شعبي سنّي عميق في تلك المنطقة.
في النظرة إلى الخارطة العراقية السورية الراهنة أول استنتاج هو أنه من المستحيل أن تنطلق عملية بهذا الحجم من دون معرفة المخابرات التركية.
كذلك من الصعب أن تتم عملية كهذه من دون معرفة مسعود البرازاني زعيم المنطقة الكردية المحاذية للموصل من جهتين شمالية، معبر ابراهيم الخليل "العراقي" مع تركيا والذي يديره البارازاني منذ ما بعد حرب الكويت، وشرقية حيث تمتد منطقة باهينان الكردية العراقية.
كذلك أيضاً من الصعب أن تتم عملية من هذا النوع من دون معرفة سعودية سيما أن السعودية على صلة تقليدية بالتركيبة السكانية الطائفية والقبلية لبادية الشام منذ الأربعينات والخمسينات من القرن المنصرم وكان ذلك منفذها للتأثير في السياستين السورية والعراقية فكيف لاحقاً بعد أن توسّعت الإمكانات النفطية؟ وظهر هذا التأثير مجدداً بعد الغزو الأميركي للعراق وإسقاطه صدام حسين ثم بعد الانفجار السوري.
ما هي "غرفة العمليات" التي نسّقت بين الضباط (وغير الضباط) البعثيين او العراقيين السابقين وكيف أتاحت لهم التواصل مع زملائهم الحاليين في الجيش العراقي "الجديد" المقيمة وحداتهم في الموصل؟
كيف نجحت أكبر "خبطة" تعرّض لها النفوذ الشيعي الحاكم في بغداد منذ عام 2003 وجعلت المرجعية الشيعية العليا الممثّلة بالسيد السيستاني تدعو إلى "الجهاد" وهي عادة لا تتخذ مواقف معلنة أو سريعة من الأحداث إلا حيال ما تعتبره حدثاً جللاً؟ وهو في الحالة الراهنة ما تراه تهديداً خطيراً للموقع الشيعي في الصيغة العراقية بعد 2003.
هكذا إذن يظهر أن "الهلال الشيعي" الذي تقوده طهران ما زال معرّضا لهزات خطيرة. فبينما قوّى هذا "الهلال" مواقعه في سوريا ولبنان بعد تعرّضه لأخطر محاولة ضرب وتفكيك عبر الانفجار السوري، ها هو الآن يتعرّض للضربة الثانية في العراق. صحيح أنها ليست بصعوبة الضربة السورية حتى الآن من الناحية الاستراتيجية ولكن هي أيضا تجسيد ملموس لمدى قدرة أخصام إيران المحلّيين والعرب والإقليميين والدوليين على إبقاء الهلال الشيعي قلقاً ومستنفٓرا وناقصا.
كل هذه الأسئلة في سلّة والسؤال حول المخابرات الأميركية الفعالة على "الحدود" الأردنية السورية و"الحدود" التركية السورية في سلّة موازية:
تحدّث الرئيس باراك أوباما في أول تصريح له بعد سقوط الموصل عن "مصالح ضخمة" لواشنطن في العراق. ولاسيما في بغداد والجنوب حيث معظم النفط العراقي. هذه "المصالح" هي التي جعلت واشنطن تلجم طويلاً الاعتراضات الكردية على بغداد ناهيك عن المصالح التجارية المختلفة وعقود الاستثمارات بما فيها في القطاع النفطي؟
أسئلة كثيرة في هذا الوضع المفتوح... منها:
هل ستعيش "داعش" ككيانٍ سياسيٍّ طويلاً؟ من المبكر الإجابة مع أن البعض يشبِّه صعودها بصعود "طالبان" الأفغانية في التسعينات والمستمرّة الصعود إلى اليوم! التذكير ضروري هنا بأن اللعبة عادت وانقلبت على اللاعب في باكستان. كانت "طالبان" تلك الورقة التي اعتمدتها طويلاً المخابرات العسكرية الباكستانية وبقيت ثابتة حتى أحداث 11 أيلول 2001 رغم تغيُّر الحكومات المتصادمة؟ وهل سيتكرر السيناريو الباكستاني بين المخابرات التركية و"داعش"؟
هل تفكّك التحالف الشيعي الكردي الذي سيطر على السياسة العراقية واقتسم مصالحها الكبرى منذ عام 2003؟ وبالتالي هل اقترب إعلان انفصال الإقليم الكردي في دولة مستقلة ستكون هي الانفصالية الثانية بعد جنوب السودان؟
لنراقب هذه المرة "الدهاء الإيراني" ماذا سيفعل في لحظة انتكاسة استراتيجية تعرّض لها؟ وكيف سيدير الهجوم المضاد عسكريا وسياسيا؟
أخبرني بعثي قديم أمس الأول في بيروت أن "داعش" الاسلامية نجحت في ما لم ينجح البعث القومي في تحقيقه: إلغاء الحدود بين سوريا والعراق؟ كانت تلك طريقة هذا الحزبي السابق في التعبير عن سروره الضمني بما حدث في العراق.
آخرون سيعثرون على طرقٍ أخرى.
في أوضاع "تسيل" فيها الحدود بين ثلاثة بلدان دفعة واحدة هي سوريا العراق ولبنان وتتمازج هويّاتُها الاجتماعية والسياسية بشكلٍ متفجِّر سيكون الحديث عن الهوية الوطنية بين كل هذه الهويات، أي الوطنيّة السورية والوطنية اللبنانية والوطنية العراقيّة، حديثاً مرضوضاً، وأتمنّى أن لا يكون قد أصبح بلا جدوى.