أعرف أن كثيراً مما كتب ويكتب من دراسات تاريخية معاصرة قد صدر عن نيات طيبة لدى الباحثين، غير أن نظرة الإنصاف إلى تاريخ وحدتنا الإسلامية يجب أن تكون هاجسنا الراهن في انتاج الوعي بحلقات هذه الوحدة بعيداً عن تلك النزعة الانتقائية التي تنطلق من الاختلاف مع تعتيم واضح على قيم الاتفاق وانجازاته.
فلا نريد للمؤرخ المعاصر أن يحمل عصاه التاريخية ليطرد من يشاء من المسلمين من رحاب الإيمان والتوحيد، ولكننا نريد له أن يحمل قلمه التاريخي لإحياء ما غاب عن الأمة من عروة الوحدة.
وما يهمنا أن نشير إليه أن ثمة عصراً إسلامياً يمتد الآن على مساحة الشرق ولا ضامن لمستقبله إلا أن يكون عصر مناعة ومقاومة للهيمنة الاستعمارية الحديثة في سياق المواجهة الحضارية في أن يكون المسلمون، كل المسلمين، على اختلاف مذاهبهم أمة وسطية شاهدة واحدة.
ومن هنا فإن منهاج – التبين والتثبت – مطلوب بنصوص القرآن ومطلوب بالعقل والبداهة بصريح التوجيه القرآني: «وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً» - الإسراء: 36.
وها هنا تأتي أهمية الدعوة إلى تصحيح ما كتب في تاريخ الملل والنحل للوقوف على جوانب المشتركات وقرابة المذاهب الإسلامية بعضها مع بعض.
وإذا كان من واجب المؤرخ أن يثبت أو يبطل ما بين يديه من الأخبار والروايات المنقولة إليه ومن واجب علم التاريخ تحليل المعلومة التاريخية ومحاكمتها تمهيداً لتنقية تراثنا التاريخي من دوافع الدس والكذب والافتراء فإن من واجب الدعاة الاحتكام إلى أدب القرآن في فض الخصومات الدينية على قاعدة البيان القرآني أن تلك أمة قد خلت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت فلا يجوز في منطق الأخلاق الإسلامية محاسبة الناس أو المذاهب لمجرد أنهم ينتمون إلى جغرافية الحدث وهوياته الطائفية.
ولا يجوز في – علم التاريخ – أن نستحسن الأحداث التي توافق عقيدتنا الدينية أو نستنتج منها تلك التي لا توافقها، وإنها لقضية جديرة بعناية مؤرخي الإسلام في الراهن المعاصر ولن يتيسر لنا ذلك إلا أن نعرف بهداية القرآن أدب الدخول إلى تدوين التاريخ وأدب القراءة والتأمل في بطونه المملوءة بدروس العبرة والموعظة، بعيون العلم الذي يبحث عن الحقيقة التاريخية ومعناها في واقعنا الحديث.
إن وعي المسلم بملابسات الظروف السياسية التي كتب فيها تاريخنا سيفتح أمامنا الأفق الرحب لإعادة النظر في كثير من قضايا الاختلاف، وبذلك ننهي ظاهرة إسقاط تلك المفاهيم التاريخية على عصرنا ولا نتورط من بعد ذلك في إصدار الأحكام الجاهزة استناداً إلى أطوار تاريخية لا يجوز الاعتماد عليها كمرجعية معيارية صالحة في إصدار المواقف والأحكام.
ومع علمنا بالنيات المغرضة لتدخل مراكز الأبحاث الأجنبية في العبث بتاريخنا الإسلامي فلا يصح أن تغدو تحليلاتنا مصدراً يتغلغل في كتب المسلمين ووثائقهم، ولاسيما ما نراه من الإسرائيليات الطافية في تراثنا التاريخي الإسلامي بعامة والمذهبي بخاصة.
وقد أجزل لنا القرآن الكريم منهج الصبر على الاختلاف بإرجاع كلمة الفصل إلى الله سبحانه وتعالى في كل ما لم نبلغ به الغاية من معرفته معرفة موضوعية وكاملة.
ولكيلا يظل الجدل العقيم حول إثبات الحقيقة التاريخية مصدراً من مصادر القطيعة بين المسلمين، فإن ما نرتجيه من هذه الاضاءات هو الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا الإسلامي من جديد، وفق منهج علمي يؤسس لثقافة الوعي بقيمة – التسامح – الذي لا ينسى ولكنه يغفر بالغفران النقدي من أجل أن تستمر الحياة ولا سيما أن مسألة – المحاسبة – والحساب هي من شؤون الخالق الذي لا تخفى عليه خافية.