كلّ مَن يزور الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وفي الذكرى السنوية لرحيل مؤسّسها الإمام الخميني، وفي زمن البحث الجاري في الاتفاق الشامل بين طهران والدول الغربية على الملف النووي الإيراني، لا يشعر بأنّ شيئاً ما قد تغيّر على صعيد تعاطي الإيرانيين مع هذا الحدث، وكذلك مع التاريخ الطويل من العقوبات والحصار الذي تتعرّض له الجمهورية منذ تأسيسها.
يؤكّد الايرانيون لزوّارهم، أنّهم منذ انتصار ثورتهم على النظام البهلوي، وطّنوا أنفسهم على الاستعداد الدائم للحرب والسلم وللحصار والانفراج، فهذه الحالات بالنسبة اليهم «نعمة» وليست نقمة، لأنّها جعلتهم يطبّقون مقولة «الحاجة أُم الاختراع»، فما حقّقوه من إنجازات في زمن الحروب والحصار والعقوبات على انواعها، ما كان يمكنهم تحقيقه ربّما في زمن الانفراج، فهي إنجازات كبيرة وكبيرة جداً، ويمكن ان تكون أكبر لو كانوا غير محاصرين.وأن يصلوا إلى امتلاك التكنولوجيا النووية للأغراض السلمية في زمن الحصار والعقوبات فذلك أمر أذهلَ ويذهل كثيراً من الدول والقوى والمحاور العالمية. ولذلك يشعر الايرانيون بنشوة الإنتصار في هذه الايام، لأنّ الدول الغربية، وبعد كثير من جولات التهديد والوعيد ومن المفاوضات الشاقة، أقرّت بحقّ ايران في امتلاك التكنولوجيا النووية للاغراض السلمية، وفي الوقت نفسه لم تتمكّن من فصل ايران عن حلفائها داخل محور «المقاومة والممانعة» وخارجه.
ولا يساور الايرانيين، حسب ما يرددون، أيُّ شكوك في انّ بلادهم ستتوصل عاجلاً ام آجلاً إلى اتفاق شامل حول ملفّها النووي مع الدول الغربية، فهي لو لم تكن راغبة في الوصول الى هذا الاتفاق لمَا فاوضَت تلك الدول في الاصل، وفي المقابل، يعتقد الايرانيون ايضاً انّه باتت للولايات المتحدة الاميركية وحلفائها الغربيّين مصلحة قصوى في التوصّل الى اتفاق مع ايران حول الملف النووي، من شأنه أن يفتح الباب امام اتفاقات أخرى داخل الاقليم وخارجه بين الجانبين، لأنّ واشنطن تعتقد أنّها بمثل هذه الاتفاقات تستطيع أن تحمي مصالحها الاقليمية، وأن تؤمّن انسحاباً آمنا لقوّاتها من افغانستان في وقتٍ لاحق هذه السنة، على غرار إنسحابها من العراق.
ولعلّ ما يؤكّد جدّية التوجّه الايراني في التوصّل الى اتفاق مع الدول الغربية، هو تدافع الشركات العالمية الى طهران منذ الاتفاق المبدئي الذي حصل بين الجانبين في جنيف قبل بضعة اشهر، وذلك من اجل البحث في استثمارات مستقبلية في مختلف المجالات، لأنّ ايران تشكّل دولة واعدةً إستثمارياً، إذ لا يخلو أيّ فندق في العاصمة الايرانية من وجود رجال اعمال عرب وأجانب يعقدون اجتماعات مع نظرائهم الايرانيين ومع مسؤولين في الوزارات المَعنية يبحثون خلالها في ما هو متوافر من فرَص استثمار حتى يكونوا جاهزين لملاقاة الاتفاق الشامل الايراني ـ الغربي المنتظر بعقود استثمارية في بلاد غنيّة جداً بالثروات الطبيعية. في الوقت الذي تستعدّ القيادة الايرانية لإنطلاق حركة اقتصادية وماليّة نشِطة في البلاد عندما سيبدأ رفع العقوبات الاقتصادية والنفطية وغيرها.
وفي الوقت الذي يحافظ الخطاب السياسي الايراني على ثوابته التي يعبّر عنها المرشد الأعلى للجمهورية الاسلامية الايرانية آية الله السيّد علي خامنئي إزاءَ القضايا الاقليمية والعالمية، وهو أمر طبيعي وينسجم مع مبادئ الجمهورية الإسلامية ودستورها، فإنّ سياسة الانفتاح التي اعلنها الرئيس الايراني الشيخ حسن روحاني إزاء دول الجوار شعاراً لحكومته، تتحوّل شيئاً فشيئاً نهجاً سياسياً يسير جنباً إلى جنب مع المفاوضات الجارية في جنيف وغيرها مع الدول الغربية في شأن الملف النووي، إذ إنّ الايرانيين يريدون، حسب بعض الخبراء في الشأن الايراني، تطمين جيرانهم وتبديد ما يثيره البعض من هواجس لديهم حيال دور إيران السمتقبلي في المنطقة، ويصوّرها بأنّها دولة زاحفة للسيطرة على دولهم.
ويؤكّد الخبراء أنّ ما طرحه وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف في مقاله الشهير الذي نشرَته صحيفة «الشرق الأوسط» السعودية قبل بضعة أشهر تحت عنوان «جيراننا أولويتنا» ستعتمده الحكومة الايرانية برنامج عمل لأيّ حوار أو محادثات ستجريها مع الدول المجاورة لها، ولا سيّما منها العربية.
ويؤكّد الإيرانيون أنّ قيادتهم ترغب بشدّة في تطبيع العلاقات بينها وبين المملكة العربية السعودية، بدليل الرغبة التي أبداها روحاني لزيارة الرياض إثر انتخابه رئيساً للجمهورية خلفاً للرئيس السابق أحمدي نجاد، إذ على رغم الخلاف الكبير بين الجانبين فإنّهما ليسا في وارد الدخول في قطيعة متبادلة، بدليل أنّ أيّاً منهما لم يقطع العلاقات الديبلوماسية مع الآخر.
ويترقّب الايرانيون مزيداً من التغييرات في بعض مواقع السلطة السعودية في ضوء القرارات المتلاحقة التي يتّخذها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز، ويتوقّعون ان تدخل هذه القرارات المملكة في مرحلة جديدة يتميّز فيها الخطاب السياسي بمزيد من المرونة، بعدما شهد خلال الاشهر الاخيرة نبرةً تصعيدية في بعض المراحل، إلّا أنّ هذه المرونة لن تعني تغييراً جذرياً في السياسة السعودية إزاء مجمل القضايا الإقليمية المطروحة، وإنّما ستشير إلى أنّ القيادة السعودية أجرَت وتجري تقويماً لسياستها ومواقفها إزاء ما يجري في المنطقة، وكذلك تقويم ما جرى حتى الآن في سوريا وانعكاساته على مستوى المنطقة وسُبل الخروج منه، الأمر الذي قد يكون أحد العناصر التي ستحقّق التقارب الايراني ـ السعودي، لذلك تنظر إيران الى المملكة العربية السعودية على انّها دولة مهمّة ومؤثّرة في المنطقة والعالم، وفي المقابل يجب، في رأي الايرانيين، أن يكون لدى السعوديّين النظرة نفسها إلى إيران وموقعها في المنطقة والعالم.