محمود...في ذكراك شمسٌ شاميَّة من تراب زينب.....
وقمرٌ عامليٌّ من ليل رجالِ لا تلهيهم تجارةٌ أو بيعٌ عن ذكر الله.....وتثقب ذاكرتي رصاصة رحمة تعيدني إلى أيامٍ سِمَانٍ من طفولة مبكرة.... فأراك خيط فجرٍ من ثوب صلاة بين شفعٍ ووترٍ.... وأجلوك في خاطري صورة في سراج البيت ، فراشة زيتٍ من ألوانٍ مُخضَّبة بنجيعِ طفلٍ رضيعٍ ولَّدته أمه ليلة الطَّفِ في قبرٍ مُعلَّقٌ بين نجمٍ وغيمٍ.....وأصطفيك لنفسي سرَّاً من أسرار الشهادة... وأعدُكَ أن لا أبوح لأحدٍ بما أقسمت...سيبقى زرعك في ثلومي تعشِّبه ، كلما قرَّرت العودة إلى مشاتلنا ، لتروي عطش التبغ ، ونياط القلب ، وشغف الروح....
محمود.....بهاؤك أبهى من وجوهنا المُقنَّعة بابتسامات الموت ، وأشرق من شموسنا المُعتَّمة ، لأنها تغادرنا لتصطلي منك دفئاً من مطر بكرٍ ، من سحابة نور.....
في ذكراك تُرهقني الذكرى....أُمسي كما الحطَّاب في غابة الأرز ، يدفعه فقرُهُ إلى قطع شجرة وتمنعه عيناهُ من قتل جمال ما رأت...ولكن سأبقى معك في ذاكرتنا الخاصة في دفترنا اليومي نُدوِّنُ ما كتبنا على الألواح بطبشور الحبِّ ، ونرسم ظِلالاً كثيفة على أطلال العمر....
أظنُّ بأني أقرب الناس إليك ، لأننا من جبلَّةٍ واحدة ، من طينة الفقر ، من بهاء جبل...تنام فيه قُرَىً من أكواخ الشهداء.....أسألك يسراً بعد عسرٍ كلَّما وسطُّك بيني وبين الله تعالى ، شفيع شهادة من عطر الأنبياء....لقد عَبَرَ بهاء ، وذهابه عظيمٌ كحياته ، جليلٌ بسيرته ، ورقدت روحه وحول مضجعها تحوم السكينة بوحي الوقار...مرتفعةٌ عن الألم والحزن ، عَبَرَ إلى حيثُ لم تَرَه العين ، ولم تسمعه الأُذُن ، قلبُهُ باقياً ببقاء السماء ، ملتهباً بشعلة نور الله ، نحن لا نندبك ، لأنَّ الندب خليق بمن يقف خلف عرش الحياة ، ثمَّ ينصرف قبل أن يسكب في راحته قطرة دمٍ من القلب...إكرامك أن نرفع لروحك ترنيمة الشكر والإحسان ، وترتيلة الدعاء والإمتنان....نحن لا نعطيك بهاءً ، بل نأخذ منك ضياءً وإبتسامات...على مهْلٍ نُبحر خلف نعشك المسافرة ، وفوقنا سماءٌ من النوارس المهاجرة إلى شواطئ الإطمئنان ، لربما يصحو الأحياءُ الشهداء إذا ما انتبهوا..ويظنون أنهم يشيِّعون الشهداء ولا يدرون أنَّ الشهداء الذين يظنونهم نائمين في الصناديق هم الذين يحملون نعوشهم.....
محمود....عذراً..! إن غفا الحبرُ وغفا وهج الجمر في رماد مواقدنا ، وما زلنا نعاين الداخلين من مقابرنا إلى حياة جنَّاتهم ، ونحن نفصِّل أكفانهم ونبني أحجار برازخهم ، ونردمُ لحودهم ونُسرع الخطى عائدين إلى قصور زينتنا ، ولا نهتم بيومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلاَّ من أتى الله بقلبٍ من تراب بهائك وبهاء الفقراء والمحرومين.