يستعرض الكاتب والإعلامي انطوان سعد في كتابه "بقاء المسيحيين في الشرق خيار إسلامي" احوال المسيحيين في ظل السلطنة العثمانية وبعدها، وبخاصة في منطقة الشرق الاوسط والدول العربية التي تجتاحها رياح التغير والديموقراطية، حيث خرجت الثورات العربية عن طابعها السلمي لاسباب ذاتية وموضوعية، لتدخل طورا جديدا من الصراع المسلح والعسكري ،والذي يدفع ثمنه المسيحيون من رصيدهم ووجودهم، بعد ان باتوا عرضة للتنكيل والتهجير.
ويتوقف الكاتب امام مرحلتين تاريخيتين عاشتهما المنطقة العربية بظل وجود المسيحيين الذين لعبوا دورا مميزا بتطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية في زمن الامبراطورية العثمانية،لان خطاب المساواة في السلطنة كان بمثابة ثورة اجتماعية وفكرية بكل ما معنى للكلمة والتي كانت لها اثار الكبيرة على مجرى الاحداث في السلطنة في تلك الفترة، والتي سمحت للمسحيين للعب دور مميز في تطور الحياة الادارة والاجتماعية والفكرية ،وبالتالي هذه الحرية سمحت للمسحيين بالنهوض الفكري.
يعود السبب لظروف ذلك لعوامل ثلاث يستعرضها الاعلامي سعد الا وهي :" نظام الملل والتنظيمات الحزبية والاتفاقات الدولية مع السلطنة العثمانية حيث يحدد هذه العوامل بارتباطها بديناميكية الاقليات الدينية المسيحية، ومن جهة اخرى ارتباطها بديناميكية المجتمعات الاسلامية، بالاضافة الى النمو الديمغرافي في هذه الدول، وكان عامل اساسي بمنع الهجرة التي ساعدت بدورها على تبوأ مواقع مهمة في السلطنة ، ولكن مع ابعاد العنصر المسيحي عن المراكز الاساسية في السلطة التي بدأ العمل الاداري يتراجع تدرجيا.
اما المرحل الثانية التي يستعرضها الكاتب هي مرحلة تأسيس الدول العربية بعد انهيار الامبراطورية العثمانية، والتي كانت مرحلة البناء ولكن مع وجود حكومات تعاني من مشاكل بسبب دكتاتوريتها وبسبب نمو الاسلام السياسي المتطرف، عندها بدأ الدور المسيحي يتراجع تدريجيا نتيجة الازمات السياسية والاقتصادية والدينية التي عانت وتعاني منها الدول العربية، مما جعل قسما كبيرا من المسيحيين يفكرون بالهجرة طمعا في تحسين اوضاعهم الاقتصادية والمالية ،او رغبة في التفتيش عن دول اكثر ديمقراطية وحرية.
يرى الكاتب بان وجود المسيحيين في الدول العربية كان له سمات متشابهة لتطور اوضاعهم في كل الدول العربية ما عدا لبنان ،اكان ذلك خلال فترة لبنان اوفي المرحلة السياسية التي تلتها ،فبعدما انخرطوا في الحركات اليسارية والقومية التي رفعت لواء التحرر من السلطنة والمنتدبة في معظم الدول العربية ،وشاركوا بفاعلية في تركيبة الحكم بعد نيل الاستقلال ،ولكن سرعان ما ابتعدوا او ابعدو عن والواجهة ،وبخاصة في مراحل الانقلابات العسكرية ،واخذوا يتراجعون على مختلف الصعد، حتى اصبحوا اقليات مهمشة في الحياة العامة في الدول التي يعشون فيها.
ويتوقف سعد امام كل دولة من الدول التي يعيش فيها المسيحيين حيث يستعرض بان الغالبية الساحقة من مسيحيي الدول العربية انخرطت في المشاريع التحررية الرامية الى انهاء الانتدابات او الاستعمار على الدول العربية الى جانب القيادات الاسلامية دونما اي تطلعات لاستقلال ذاتي ، او السعي لتحقيق شخصية متمايزة عن الاوساط التي عاشت فيها.
لكن الكاتب يرى بان المسيحيين بعد استقلال مصر والعراق وسورية تابعوا سياسة الانخراط بالكامل بالحياة السياسية الى درجة التماهي مع سائر المواطنين في هذه الدول ومالوا بالأساس الى الانخراط في احزاب ذات اتجاهات قومية ويسارية ،وفي كثير من الحالات تأسيسها او الاشتراك في تأسيسها مع نخب اسلامية اظهرت استعداد كبيرا لتقبل مبدأ التساوي في المواطنة بين المسحيين والمسلمين.
اما ما يخص المسحيين الفلسطينيين يرى الكاتب بانه بالرغم من التحديات الصعبة التي تواجه نشاط الفلسطينيين نتيجة نمو الحركة الصهيونية انذاك والذي بدات مخاطره على المجتمع الفلسطيني تظهر تباعا ،لكن دور المسحيين كان طليعيا في التحذير لما كانت تحضره الجمعيات اليهودية ، ومن ثم الانخراط في التصدي للمشروع الرامي الى قيام "دولة" اسرائيلية.
وهكذا انتهت الالفية الثانية على واقع صعب جدا بالنسبة الى المسيحيين ،وتحويل حضورهم الفاعل والمؤثر على مجرى الحياة في الدول العربية على مدى نحو قرن من الزمن ،الى وجود صامت يكون اقرب الى النزف والاحتضار والموت البطيء.
على الرغم من اليقظة العالمية والإقليمية التي التفتت الى وضع المسيحيين في المنطقة العربية ،وحتى قبل الاجتياح الاميركي للعراق الذي نتج عنه استهداف مباشر للأقليات المسيحية فيه على اختلاف مذاهبها، والتي برزت اكثر فاكثر في ثورات الربيع العربي مما جعل الوجود المسيحي مهددا بالاضمحلال والتهميش نتيجة التعرض المباشر لوجودهم في الدول العربية التي تختلف في واقعها وتعاملها معهم ابتدءاً من مصر والتي يمثل الاقباط فيها نسبة 10بالمئة والتي تشكل اكبر حالة ديموفرافية مسيحية ومن ثم سورية التي اضحى فيها مصير المسيحيين على حافة الهاوية ،ومن ثم الاردن الذي لا يزال مصيرهم مرتبط بحماية خاصة من ملك البلاد بالرغم من حالة الغليان التي يمر فيها الاردن، وربما تغيير سياسي قد يدفع المسيحيين فيه الثمن نتيجة نمو التطرف الاسلامي ،اضافة الى حالة الهجرة التي تتعرض لها الاراضي المقدسة في فلسطين من هجرة وتشريد وتواطؤ دولي يسهل خروجهم منها، منتهيا بلبنان الذي يشكل حالة استثنائية لوجود المسيحين منذ تاسيس دولة لبنان الكبير والذي شكل على مدى الالفية الماضية موطن امن للتواجد المسيحي في الشرق وعلاقة مختلفة ضامنة نوع من المناصفة والمشاركة في حياة الدولة بالرغم من الحرب الاهلية التي فرضت نفسها على الواقع اللبناني ودفع المسيحيون ثمنا كبيراً عبر تحديد بعض الصلاحيات والتي انتجت وثيقة الطائف ،لكن لبنان الذي ينص على المشاركة والمناصفة لايزال المسيحيون يعانون من تطبيق هذه المفاهيم والتي زادت خوفا مع نمو الصراع السني – الشيعي والتي بات يعرف بصراع المحاور، والذي قد يكتب له الحلول على حساب المسيحيين.
ولابد من الإشارة الى الاخفاق في ايصال رئس جمهورية مسيحي وتحديدا ماروني، يعني بان اطراف الصراع باتوا يؤثرون سلبيا في توظيف هذا "الكرسي" لمصالحها الخاصة، مما يشكل تهديدا مباشرا للمسيحيين الذين فشلوا في الاتفاق على ايصال مرشحهم الى سدة الرئاسة الاولى، التي تهدد بالفراغ القادم لشخص الرئيس الذي يكون قائمة على التسوية بين القوى المتصارعة على حساب المشاركة التي تم الاتفاق عليها في نص اتفاق الطائف.
فإذا كان بقاء المسيحيين في الشرق العربي خيارا عربيا اسلاميا، فان بقاء المسحيين في لبنان خيار لبنانيا ، وهو خيار يفترض به ان يؤخذ سريعا ويترجم بانتخاب رئيس جمهورية قبل فوات الاوان.
يعتبر هذا الكتاب بمثابة بحث علمي مستفيض يفي الموضوع حقه ،بقدر ما اثاره لجوهر قضية الحضور المسيحي في الشرق العربي ،وبخاصة الجوانب التي تبقى عادة طي الكتمان لاعتبارات ومصالح وقلق من تحريك المياه الراكدة.
لقد ركز الكتاب على مسؤولية المسلمين تجاه قضية المسيحيين في الشرق العربي لأنهم اكثرية ديمغرافية تمسك بمفاصل الحياة العامة كافة ،ولان المسيحيين فقدوا القدرة على المبادرة .ولهذا على النخب المسلمة ان تقرر ما اذا كانت تريد بقاء المسيحيين الى جانبهم في المنطقة التي تعيش فيها اباء وأجداد منذطوال اربعة عشر قرنا ،اما ما اذا حان الوقت بنظرهم لإنهاء وجود المسحيين.
الكتاب عبارة عن دراسة قيمة تغني المكتبة العربية واللبنانية وتساعد الباحثين والكتاب في التوقف امام فواصل تاريخية موثقة ومبندة يحاول الكاتب والإعلامي انطوان سعد اظهارها وطرحها امام الجميع من خلال اسلوب شيق ورفيع جدا في طريقة عرض المعلومات والتحليل، والتوقف امامها بموضوعية يحكمها المنطق العلمي والعقل الاكاديمي في التعاطي مع الحقائق والمواقف التاريخية .
محاولة مميزة من الكاتب في التنقيب بين التاريخ والذاكرة وربطها بالواقع الاليم والمأساوي لواقعنا العربي الذي نعيشه وتعيشه الاقليات المسيحية صاحبة التاريخ العربي الناصع في اوطانها الذي لا يقل اهمية عن تاريخنا لأنه مرتبط به ومتلاصقا الى جانبه من خلال تاريخ ولغة وشعب واحد عاشت على هذه الارض المتلاصقة والتي تشكل هويتنا وتاريخنا جميعا.
يقسم الكاتب الى خمسة فصول وكل فصل الى عدة محاور صغيرة مترابطة سهلة الشرح والفهم لصفحات التاريخ مربوطة بالحاضر والواقع الحالي .
كذلك يتضمن الكتاب مراجع علمية ومقابلات وملاحق في محاولة جديدة يحاول الكاتب الاشارة الى اهمية العنصر المسيحي في المجتمعات العربية من خلال الاعادة بالدور التاريخي للمسحيين العرب ،مما يساعد على فهم العنوان الذي اطلق عليه بقاء المسيحيين في الشرق خيارا اسلاميا.
د.خالد ممدوح العزي .
كاتب وباحث اعلامي مختص بالإعلام السياسي والدعاية .