أستغرب من مثقفي وسياسي وصحفي المقاومين والممانعين أن يستمروا باستغباء جمهورهم، فهل لا زالوا يعيشون في نصف قرن مضى؟
كان يكفي في تلك الحقبة من الزمن الغابر أن ينزل ثلة من البعثيين إلى الشارع ويبدؤوا بنضالهم الـ"دونكيشوتي" من خلال هتافات جوفاء –لكنها ملحّنة ومقفاة بطريقة جميلة- على طريقة: "حيدوا واحنا بعثية حيدوا... حافظ أسد بعد الله منعبدوا" "بعثية ونزلت ع الشارع الله واكبر ع اللي يمانع"، ورجعي رجعي بالصباط مندعسوا"...إلخ لكي يوهموا جمهورهم بالانتصار وتحرير السليب من الأراضي وكفا المؤمنين شر القتال.
ولكن أن يأتي ابراهيم الأمين بعد نصف قرن من الزمن أصبح فيه كل مراهق من هذا الجيل يستخدم الهواتف الذكية مثل الـ"آيفون" والـ"آيباد" ويتواصل على مواقع التواصل الإجتماعي مثل "فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام" ويمكنه أن يستنجد بـ"يوتيوب" و"غوغل" و"ويكيبيديا" وأن يستخدم الأمين أساليب الستينيات الخشبية المنقرضة لدرجة أنها لن تنفع أن تكون حتى متحفية أو "ايقونية" لوضعها في متحف وطني فهذا ما أستغربه على رجل عاقل يُفترض أنه متبصر وحكيم ومهني إلا إذا كان يعتقد أن جمهوره هو ممن يرغبون أن يغيبوا عقولهم بإرادتهم وعندها لن يحق عليهم إلا قول الكريم: "إن هم إلا كالأنعام أو أضل سبيلا" /ص/.
يبدو أن ابراهيم الأمين يجهل أنه يخاطب قضاة عتاة غربيون ومحترفون يعلمون الغيب وما وراءه في اختصاصهم وفي فهم نفوس المتهمين ودوافعهم –اقصد بعلم الغيب ليس غيب الله عز وجل وانما علم الفراسة، فراسة المتمكن من مهنته واختصاصاه فهؤلاء لا يوظفون في مواقعهم لأسباب يعلمها الأمين وأمثاله وإنما يأتون عن جدارة لهذه المواقع بغض النظر إن آمنا بشرعية المحكمة أم لا أو استنزهنا دوافعها أم لا.
ًمن الواضح لكل قارئ حيادي وموضوعي للمشهد الذي دار أن الأمين جاء للمحكمة وبذهنه مسألتين اثنتين لا ثالث لهما وهما:
أولاً, أن يظهر بمثابة البطل الخارق الذي يواجه ويسافر إلى أعداءه وطالبي الحق منه –سافر عبر الفيديو طبعاً ولم يجرؤ للسفر إلى لاهاي شخصياً– فبدأ حديثه في الدفاع بخطبة عصماء خشبية خلط فيها الحابل بالنابل وهو الصحفي العارف بأن الحديث هو "ما قلّ ودلّ" وأن عليه أن يدخل في صلب الموضوع المحدد وأن يخرج منه بأسرع وقت ممكن كي يُتابع من القارئ أما إن اتبعت غير ذلك فأنت على يقين أن القارئ -أو المستمع في حالتنا هنا- سيمل ويصيبه التيه ولن يتابع.
أما السبب الثاني فهو أن يستدر عطف المشاهد اللبناني فقد أراد أن يستغل البعد الجغرافي –حاجز التخاطب عبر الكاميرا والشاشة- اضافة لحاجر اللغة وبالتالي تأخُّر الترجمة ليمرر للمشاهد أنه جاء للمحكمة بمذكرة جلب فانتبه القاضي بعد عدة دقائق إلى هذا المثلب –أو ربما يكون قد انبته له منذ البداية ولكنه تأخر بالرد لكي لا يقاطعه في أول حديثه- المهم وضح القاضي بانكليزية ذات لكنة اوروبية مكسرة ولكن واضحة ومحببة انه لم يتم جلب الأمين رغماً عنه وأنه غير معتقل وأنه قدم بطوع ارادته وبرغبته الكاملة والحرة– اذا الأمين لا يقول الحقيقة وبالتالي فغايته هي محض اجترار لعواطف الناس بإيهامهم أنه قُمع وأُرغم على القدوم وبالتالي سيظن الناس أن من قام بذلك هم السلطة المحلية وهذا يعني فريقاً معيناً يتسلم الآن الوزارتين الاختصاصيتين في الجلب والإحضار! حتى انه حاول أن يجسد هذا بتعابير الوجه ولكن تجربة الأداء كانت غير موفقة.
ًقام ابراهيم الأمين بمحاولة فاشلة أخرى إذ استغل هذه المقاطعة الهامة والضرورية من قبل القاضي لينفذ ما كان في نيته من أصله وهو الانسحاب من المحاكمة لأني أعتقد شخصياً ان قدومه كان مجرد مسرحية فإما ان تلقى جمهوراً كبيرا إذا تمكن من تمرير كرات تسلل كثيرة أو أن تكسب جمهوراً صغيراً هو بحاجته بكل الأحوال وبالتالي هو كان يطبق المثل الشعبي القائل أن الاصابة إما "بتلزق على الحيط أو بتعلم".
هو استغل مقاطعة القاضي له لتوضيح مسألة أن أتى طواعية ليدعي أن القاضي له سلطات مطلقة عليه كما توقعها منذ البداية وانه بهذه السلطات يمكن أن تُقاد المحاكمة إلى حيث كان –المقصود الأمين- يتخوف منها منذ البداية لذلك طلب الأمين عدم الاستمرار في الحديث وطلب التزامه الصمت إلى الأبد وحتى أنه يرفض تعيين محامي ليدافع ويتحدث بالنيابة عنه.
كرة التسلسل الثالثة والأخيرة من قبل الأمين جاءت عندما طالب بالانسحاب من القاعة و"العودة إلى زوجته وأولاده" -وكأنه حرم منهم لعقود من الزمن- بحيث أرد ايهام المشاهد أيضاً بوضوح أنه محتجز وكان يحاول بذلك إما استدرار عطف المشاهد أو محاولة استفزاز القاضي بانسحابه المبكر وعدم تعاونه مما قد يؤدي بالقاضي أن يبقيه رغما عنه حتى نهاية المحكمة فيظهر عندها الأمين أنه مكرها على ذلك فيضمن استدرار العطف بجدارة ولكن القاضي المحنّك والذكي والهادئ والبعيد النظر أفشل هذه المحاولة وأكد باستفاضة "مقصودة" للأمين: "انت كنت حرا وجئت بكامل حريتك ومتطوعا للمثول أمام المحكمة ولازلت حراً ويمكنك المغادرة وقت تشاء بكلّ حرية وبقرار منك وحدك" وهكذا غادر الأمين.
للأسف أنا على يقين أن جمهور الممانعة سيعتبره بطلاً ثانياً "للعبور" وأنه الخائض لحروب التحرير وسيحاولون ايهامنا أننا سنصلّي جميعاً قريباً في المجسد الأقصى وفي كنيسة القيامة لأن الأمين أوصلنا إلى مسافة قاب قوسين أو أدنى من القدس.
الأهم مما قاله القاضي هي نقطة بسيطة إجرائية قد تفوت جميع المتابعين عندما قال بحيثيات حديثه الإجرائي أن تاريخ انعقاد هذه الجلسة بهذا اليوم بالتحديد جاء نتيجة طلب تأجيل الجلسة الأولى التي كانت مقررة سابقاً "بناءً على طلب المتهم" وهذا يعني بوضوح أن إبراهيم الأمين اعترف بالمحكمة وباستدعائه وبتاريخ انقعاد الجلسة الأولى وطلب التأجيل من وقتها والذي تزامن مع ما كان من غضبة جمهورهم و"مرجلته" ورفضه واستنكاره وعدم اعترافه بهذه المحكمة بينما رفيقهم الذي تضامنوا معه كان ينسق التاريخ المناسب ليحضر مع معلقته الطويلة. أخيراً وللأسف هذه هي الميزة الهامة المشتركة بين كل الممانعين، إزدواجية اللغة والخطابة فهم يقولون ويقبلون ويتصرفون بالغرف المغلقة بشيء ويمارسون ويقولون علناً أمام جمهورهم عكس ذلك وإلى أن يأتي ذلك الوقت الذي يقرّر ذاك الجمهور تشغيل عقولهم كلّ محاكمة وأنتم أمناء على متباعتها بدقة.