مع انتقال تجربة "حزب العدالة والتنمية" من الصعود إلى الانحدار بالمعنى التاريخي للكلمة يتراءى أن التحدّي الأساسي الذي باتت تواجهه الديموقراطية التركية هو مدى قدرة رجب طيّب أردوغان وإسلاميّيه على قبول واقع خسارتهم للنخبة الليبرالية الطليعيّة وأن أكثريتهم الحالية هي مجرد أكثرية عددية مؤقتة.
أمس، في 28 أيار 2014، مرّت الذكرى الأولى لتظاهرات حديقة غيزي في "ساحة تقسيم" في الجزء الأوروبي من مدينة اسطنبول... التظاهرات التي بدأت باعتراض حركات بيئيّة على مخطط حكومة رجب طيِّب أردوغان إلغاء الحديقة وتحوّلت إلى مواجهات عنيفة تخطّت الموضوع البيئي لتصبح اعتراضاً واسعاً من النخب الليبرالية والشبابية في مدن تركيا الكبرى ضد سياسات رئيسيّة في الداخل والخارج.
لم ينتبه كثيرون خارج تركيا - لا داخلها - أن الشابين قتيلي مواجهات "ساحة تقسيم" اللذين سقطا برصاص الشرطة كانا من الطائفة العلوية. أشار إلى الأمر بعض المعلّقين الأتراك ولكن لم تأخذ المسألة بعداً طائفيّاً -حتى بعد سقوط قتيل ثالث في محافظة هاتاي (اسكندرون) أيضا من العلويين حيث تتواجد تقليديّاً كثافة سكانية من العلويين العرب - لأن طابع المواجهات كان أشمل من ذلك وفيها عبّرت النخب التركية من فنانين ومثقفين وسياسيين وشباب عن أول اعتراض من نوعه ضد الحالة السياسيّة التي بات يمثّلها رجب طيّب أردوغان. لم تُفقِد هذه التظاهرات الأكثرية الشعبية العدديّة التي تدعم "حزب العدالة والتنمية" وزعيمه أردوغان، لكنّها أعلنت ما يمكن اعتباره أول طلاق بين معظم النخب الثقافية والشبابية والليبرالية التي كانت تؤيّده وتخلّت عنه وبين قيادة رئيس الوزراء. من هنا أهمية دلالات تلك الأحداث ولهذا أيضاً تحوّل رجب طيّب أردوغان إلى شخص عصبي خصوصا أن اهتزاز صورته بلغ الأوساط الأوروبية السياسية.
بعد عام من ذلك اليوم يبدو أردوغان أكثر توتّراً سواء حيال معارضيه في الداخل أو في الخارج، ويبدو رغم أكثريته (45 بالماية) رجل انقسام عميق لا رجل توحيد. وفي هذا الجو ثمة العديد من المؤشرات على تفاقم مسألة علويّي تركيا. ففي الاسبوع المنصرم سقط بفارق أيام قليلة قتيلان من متظاهرين علويين أمام أحد مراكزهم الدينية في اسطنبول في حي "أوك مايداني" ذي الكثافة العلوية، فصدر بيان استنكار عن إحدى مؤسّساتهم التمثيليّة الكبيرة.
الحالة العلوية في تركيا قنبلة موقوتة فعلية إذا راقبنا نوع الخطاب العام المتأجّج بين الحين والآخر حولها. وهو يتكرّر مرارا في السنوات الأخيرة حتى أنه بات من المألوف أن تقرأ أحياناً في الصحافة التركية مقالات - رسائل "إلى أخي السنّي العزيز" (راجع مقال أحمد هاكان المنشور اليوم على هذه الصفحة).
تركيا أمة - دولة ذات تقاليد متماسكة أياً يكن الحاكم. ولهذا فإن تعبيراً مثل تعبير "الحرب الأهلية" يجب استعماله بحذر شديد مع أن بعض المعلّقين الرصينين في الصحافة التركية يتحدّث عن نوع خاص من "الحرب الأهلية" تشهده تركيا؟ والمقصود بذلك انقسام البلد بين جبهتين كبيرتين تضم الأولى "حزب العدالة والتنمية" وحلفاءه والثانية جميع الأتاتوركيين والعلمانيين بأحزابهم المختلفة، مضافاً إليهم نخب حركة "حزمت"، بقيادة فتح الله غولن، الموجودة في القضاء والشرطة والعديد من الهيئات الفاعلة في بنية الدولة التركية.
مع انتقال تجربة "حزب العدالة والتنمية" من الصعود إلى الانحدار بالمعنى التاريخي للكلمة يتراءى أن التحدّي الأساسي الذي باتت تواجهه الديموقراطية التركية بمشروعها التحديثي المتميِّز عن محيطها المسلم هو مدى قدرة رجب طيّب أردوغان وإسلاميّيه على قبول واقع خسارتهم للنخبة الليبرالية الطليعيّة وأن أكثريتهم الحالية هي مجرد أكثرية عددية مؤقتة، أو مدى قدرة هذه الديموقراطيّة على تأمين انتقال سلس للسلطة في لحظة سقوط ما للحزب الحاكم ذي الجذور الإسلامية؟ لأن مخاوف كثيرة لا يمكن تجاهلها تنشأ من الانطباع السيئ الذي بات يعطيه رجب طيّب أردوغان عن نزعته التسلّطيّة حتى أن بعض اليافطات المرفوعة مؤخّراً في التظاهرات يصفه بـ"الديكتاتور" فيما تذهب بعض الأعمال الكوميدية لإحدى الفرق الفنية التركية الجديدة إلى اشتقاق تعبير يتهكّم على أردوغان باعتباره Gazfather تيمّناً بالتعبير الشهير Godfather ( العراب) واستنكارا لقسوة استخدام الشرطة للغاز خلال قمع التظاهرات. على أي حال سيكون استحقاق انتخابات رئاسة الجمهورية محطةً لمعرفة مدى شهوة وشهيّة رجب طيّب أردوغان السلطوية.
عندما وقف المخرج التركي نوري بيلغ جيلان الفائز بجائزة السعفة الذهبية في مدينة كان عن فيلمه "نعاس الشتاء"... عندما وقف يهدي الجائزة إلى كل ضحايا التظاهرات الذين سقطوا خلال العام المنصرم في تركيا منذ بدء أحدات "ساحة تقسيم" كان بذلك يعبِّر عن عمق الرفض الذي بلغَتْه النخبة الليبرالية التركية ضد الحكم الحالي. هذا الحكم المحتفظ حتى اللحظة بأكثريّته العدديّة ولكن الذي فقد طليعيّته.