رغم كل ما يقال عن لبنان وما يجري فيه من اختلافاتٍ وتناقضات، وصراعاتٍ واشتباكات، وحروبٍ داخلية، وصداماتٍ طائفية، وغرائب وعجائب، وارتباطات وارتهانات، وتبعية وغياب استقلالية، ومرجعية خارجية ورعاية دولية، ونفوذٍ عربي وتدخلٍ أجنبي، وتقاسمٍ في المناصب، وتحاصصٍ بين الطوائف، وتوزيعٍ مدروسٍ وموزونٍ في وظائف الدرجة الأولى، في تقليدٍ قديم والتزامٍ جديد.

ورغم ما يعاني من ركودٍ اقتصادي، وتفاقمٍ في العجز، وتزايدٍ في الديون، ومشاكل عديدة في سلسلة الرتب والرواتب، واضطراباتٍ عديدة في الحياة العامة نتيجة التحركات النقابية، والمطالب العمالية، والحقوق الوظيفية، والبطالة المتفاقمة، ومشاكل الكهرباء المستعصية، ومياه الشرب المتعسرة، والارتفاع الكبير في أسعار المحروقات ومختلف الخدمات وبقية السلع.

فضلاً عن الخراب الذي أحدثه العدوان، والحروب الإسرائيلية المتكررة، التي تسببت في دمار القرى والبلدات، وهجرت السكان، الذين يعانون حتى اليوم من ويلاته، ويشكون من اعتداءاته.

وعلى الرغم مما يواجهه من تداعيات الأزمة السورية، التي انعكست عليه كلياً، وألقت بظلالها الثقيلة عليه، فأثرت على أداء حكومته، وسياسة أحزابه، وتركيبة سكانه، بعد أن لجأ إليه قرابة مليوني سوري وفلسطيني، هاربين من الحرب، وفارين من المعارك الدامية، الأمر الذي أثر سلباً على اقتصاده، وأحدث إرباكاً في خدماته لشعبه، وواجباته تجاه سكانه.

إلا أن لبنان يبقى عنده ما يباهي به ويفاخر، ويتيه به ويتميز عن غيره، فهو يعيش ديمقراطيةً نادرة، عزَّ على بقية الدول العربية الأخرى كلها أن تعيش مثلها، أو أن تتمتع بها، أو أن تلتزم بها، وتطبق أسسها.

إنه لبنان، البلد الصغير في مساحته، العريق في ديمقراطيته، العديد في طوائفه، المختلف في تضاريسه وطقسه، والمتعدد في مشاربه وأهوائه، يلتزم الديمقراطية، ويحترم دستور البلاد، ولا يتجاوز القوانين التي تعارف عليها أهله، وتعاهدت على الالتزام بها طوائفه وأحزابه، وتوارثتها أجياله.

فاليوم وفي مشهدٍ ديمقراطي كبير، يغادر رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشيال سليمان القصر الجمهوري اللبناني، مختاراً طائعاً راضياً مقتنعاً، فرحاً سعيداً وإن بدا للبعض غير ذلك، بعد ستِ سنواتٍ قضاها في القصر الرئاسي رئيساً للجمهورية اللبنانية، كان خلالها الشخصية الأولى في الدولة، ورمز وحدتها وعنوان استقلاليتها، وواجهتها الرسمية لدى العالم كله.

إلا أنه يغادر القصر قبل ساعاتٍ قليلة من انتهاء عمر ولايته الدستورية، فيجمع في قصره قبل أن ينتقل إلى بيته وداره، ليكون فيها مواطناً عادياً، خصومه وأصدقاءه، وضيوفه والموفدين إلى بلاده، ليصافحهم ويودعهم، ويوصي القائمين على البلاد من بعده، أن يكونوا أمناء على العهد، وصادقين في الوعد، وأوفياء للشعب والوطن، فلا يفرطوا في حقوقه، ولا يغامروا بمصيره، وأن يواصلوا من بعده الدرب، ويسيروا على ذات النهج، الذي يجمع ويوحد، ويقارب ولا يباعد.

لست هنا لأشيد بمناقبية الرئيس العماد ميشيال سيمان، وإن كان يستحق بعضها، بل لأشيد بالديمقراطية العالية الرفيعة، التي أراها تقف شامخةً عزيزة، بينما يغادر رئيسٌ قصره الرئاسي مختاراً، دون ثورةٍ أو انقلاب، ومن غير مظاهراتٍ أو اعتصامات، ودون صفقاتٍ أو تفاهمات، ومن غير قوةٍ قاهرة، ولا ضغوطٍ كبيرة، بل يسلم مفاتيح قصره إلى الخلف من بعده وإن لم ينتخب بعد، ويغادر القصر الذي كان فيه رئيساً، وحاكماً أولَ، يأمر فيطاع، ويصدر الأوامر فتنفذ، ولا يقوى أحدٌ على منازلته، أو يتطاول آخر على مكانته، ليعود إلى بيته الأول الذي فيه نشأ وسكن، فيتخلى بإرادته، ملتزماً بدستور بلاده، عن كل مظاهر القوة والسلطة.

إنها ديمقراطيةٌ لبنانية أصيلة، علينا أن نفتخر بها، وأن نعتز ونباهي بها، فها هو رئيس يغادر منصبه بنفسه، فلا يتمرد ولا يتمترس، ولا يدعي أن بلاده من دونه ستخرب، والحرب في غيابه ستشتعل، والفوضى عند رحيله ستعم، وستدخل البلاد في أتون حربٍ أهلية، ومرحلة عدم استقرارٍ طويلة، الأمر الذي يوجب بقاءه، ويحتم استمرار وجوده، فهو أمل البلاد، ورمز وحدتها، وضمان استقرارها، ولا يوجد في البلاد من يقوم مقامه، ويواصل دوره، ويحقق الأهداف المرجوة، ويصل بالوطن والشعب إلى الغايات المنشودة.

رئيسٌ يغادر القصر دون أن يكون فيه منافسٌ له، أو من يستعجل خروجه ورحيله منه، بل يغادر منصب الرئاسة الأولى ويتركها للفراغ، فلا يوجد من يسكن القصر الجمهوري من بعده، أو من يشغل الكرسي مكانه، وقد يطول الفراغ، وتتعقد الحياة السياسية، لكنه لم يتذرع بهذه المخاوف، ولم يستند إلى هذه الذرائع، بل آثر أن يعود جندياً كما بدأ، ويرجع مواطناً عادياً كما كان.

قد يقول البعض بأنه لا ميزة للرئيس فيما فعل، ولا غرابة في تصرفه، فهذا هو دستور البلاد، وعليه أن يحترمه ويلتزم به، وهو ما اعتاد عليه الرؤساء من قبل، فهو لم يأت بجديد، ولم يبتدع طريفاً، ولم يقم بسابقة، ولكن المستخفين بفعله لا يقدرون أن السلطة مغرية، وأنها شهوة الخلق، وآخر ما ينزع من الإنسان، ونحن لم نعتد في بلادنا على رؤساءٍ يغادرون قصورهم طواعيةً دون ثورة، ويتركون مناصبهم من غير قتلٍ أو وفاة، وبدون انقلاباتٍ عسكرية أو ثوراتٍ شعبية.

فقد تعودنا في غير لبنان أن يخرف رؤساؤنا، وأن يبولوا على أنفسهم، ويفقدوا الحركة على أرجلهم، وتصيبهم كل أمراض الشيخوخة وأدواء الزمن، ويبقون على الرغم من ذلك في مناصبهم، قبل أن يموتوا وهم في سدة الحكم، ليدفنوا رؤساءً، أو يسلموا البلاد لعصاباتٍ مسلحة، ومليشياتٍ متقاتلة.

الرؤساء في بلادنا لا يقالون ولا يستقيلون، ولا يتخلون عن الحكم، ولا يتقبلون خيارات الشعوب، إلا بعد مجازرٍ ومذابح، بل يعتقدون أنهم خيار البلاد إلى الأبد، وأنهم قدر الشعوب مدى العمر، وعليهم أن يقبلوا بهم، ويخضعوا لهم، ويستسلموا لحكمهم، وإلا فإنهم سيحرقون البلد، وسيدمرون الوطن، إنها ديمقراطية العرب التي نعرف، أما غيرها فلا نعرفها، ولا صلة لنا بها، هنيئاً لك لبنان ديمقراطيتك، ومرحى برئيسك الجديد، وأهلاً وسهلاً به.