فراغ الرئاسة اللبنانية الاولى ليس معضلة مسيحية. هو في الجوهر مشكلة اسلامية تختزل جميع الازمات المتفجرة بين السنة والشيعة على امتداد العالم الاسلامي، والتي يدفع ثمنها المسيحيون المقيمون في هذا العالم المضطرب.
مسؤولية المسيحيين عن ملء هذا الفراغ بالشخص المناسب وفي الزمان المناسب كبيرة جدا ، لكنها ثانوية بالمقارنة مع مسؤولية المسلمين الذين انفتحت بينهم اليوم جبهة مواجهة جديدة عنوانها الرئاسة الاولى ومضمونها الجمهورية الثانية، التي يشهد اللبنانيون هذه الايام نهايات حقبتها الممتدة منذ اتفاق الطائف وحتى الان. قدم المسيحيون مرشحين قويين يتمتعان بشرعية شعبية واسعة، لكنها يقفان على خطوط التماس بين السنة والشيعة، ولا يستطيعان مغادرتها. كلاهما يتوقع انفجار الصراع بين اتباع المذهبين الاسلاميين، وكلاهما يشعر ضمنا بان في ذلك مصلحة مسيحية حتمية بعيدة المدى. وهو خطأ تاريخي جسيم..فضلا عن انه مخالف للوظيفة المحددة للرئاسة في المرحلة الراهنة، اي تشكيل قوة فصل في الامن كما في السياسة بين المسلمين، واعادة اجتذابهم الى المشروع الوطني اللبناني المهدد بالزوال في اي لحظة. من العبث الافتراض ان بامكان القيادات والمؤسسات المسيحية ان تفرض على السنة والشيعة عزل نزاعاتهم التاريخية المتفجرة الان على اكثر من جبهة، والجلوس معا حول طاولة لبنانية واحدة من اجل التوصل الى تفاهم داخلي على تسيير امور الدولة وتنظيم احوال المجتمع. لكن، من دون الجهر بهذه الاولوية، ومن دون السعي الحثيث الى تحقيقها، لا يمكن ان يكون هناك رئيس، ولا يمكن ان تبقى جمهورية.. حتى ولو كانت هذه المهمة متعارضة الى حد ما مع الجو الاقليمي والدولي الذي يغذي الفتنة المذهبية او على الاقل لا يمانع في توسعها. الوفاق السني الشيعي شرط حياة للمسيحيين اللبنانيين. والعكس صحيح ايضا. لكنه طموح صعب. وتجربة الرئيس ميشال سليمان خير دليل. فقد حاول الرجل بجدية تفكيك عوامل التفجير بين المسلمين، فتحول الى شبه مطلوب للعدالة. وها هو يستعد للاذعان لطلب تسليم البلد الى المجهول، من دون ان يتمكن احد من توفير مهلة قصيرة له وللجمهورية لالتقاط الانفاس والعثور على بديل، غير لصيق بخطوط التماس الاسلامية. الورقة الاخيرة التي يمكن ان يلعبها المسيحيون هي ان تغامر كنيستهم مجددا في اقتراح إسم وحيد، لا إثنين او ثلاثة كما يشاع، يكون مستندا الى تغطية فاتيكانية اولا ثم الى استطلاعات الرأي التي اجرتها بكركي بالذات، فتهدىء الجمهور المسيحي، وتحرج الجمهور المسلم، الذي يميل الى حسم جانب من صراعه المذهبي من خلال الرئاسة الاولى، لكنه لا يرغب في تقويض تلك الرئاسة وانهائها، على الاقل حتى الان.
لكنها اكثر من مغامرة كبرى، إذ يمكن ان تتحول الى مخاطرة أكبر.. قد تذهب بما تبقى من الموقع المسيحي الاول في الجمهورية، اذا ما اسيء استخدامها. الكلمة الان لبكركي. وهي لا تحتمل الهمس، ولا الانتظار الذي يترقب المسلمون ان يمتد لأشهر.. وينتهي بصفقة سعودية ايرانية مستحيلة، او تسوية سورية اشد استحالة. الفراغ قاتل للجميع، لكنه للمسيحيين ما زال حتى اللحظة قابلا للاحتواء، لان موقعهم ودورهم اللبناني كان ولا يزال اهم واعمق من موقع مسيحيي سوريا او العراق او الاردن او مصر .. وأدق من ان يؤجل الى ما بعد زيارة البطريرك بشارة الراعي الى ارض فلسطين المحتلة! الرئاسة الاولى حاجة مسيحية ملحة، لكنها ايضا ضرورة اسلامية ضاغطة.. فضلا عن كونها شرطاً للحؤول دون ادراج لبنان على لوائح الشطب او التعديل المقترحة على خريطة المشرق العربي التي كان اللبنانيون أول المستفيدين منها، لكنهم لم يكونوا يوما من المتنعمين بميزاتها: الدولة المركزية السورية التي تتهاوى الان هي مثال حي بقدر ما هي خطر داهم.