من حقّ أيّ سياسيّ إعادة النظر بمواقفه وفقَ متطلّبات كلّ مرحلة سياسية أو نتيجة تبدّل قناعاته، وعلى قاعدته محاسبته، واستطراداً الابتعاد عنه، ولكن ماذا عن الفريق المتضرّر من النهج الذي اتّبعه هذا السياسي أو ذاك، وهل يفترض التعامل معه وكأنّ شيئاً لم يكن؟
القضايا الوطنية يُفترض أن تعلو على الاعتبارات الشخصية، بمعنى أنّه طالما الصراع المركزيّ في لبنان هو مع «حزب الله» يجب أن يكون الهدف تعريته وطنياً وتقليص نفوذه وتأثيره، الأمر الذي يجعل الانفتاح على مكوّناتٍ حليفةٍ له بغية فصلِها عنه واجباً وطنيّاً، ولكنّ لهذا الانفتاح شروطاً، أبرزُها الآتي:
أوّلاً، أن يكون التحوّل الذي قام به تحوّلاً فعلياً وجدّياً، لا موسمياً وطارئاً، ربطاً باستحقاق رئاسيّ أو نيابيّ أو وزاريّ، أي أن تكون القناعة الوطنية لا المصلحيّة هي التي دفعَته إلى إعادة تموضعه السياسي.
وهذا الأمر بالذات لا ينطبق على العماد ميشال عون الذي لم يُبدّل بوجهةِ نظره حيال القضايا الخِلافية، لا بل ما زال يؤكّد على تمسّكه بخيار المقاومة الذي يشكّل جوهر الخلاف في لبنان منذ العام 2005، علماً أنّ هذا الخلاف يعود فعلياً إلى العام 1990 مع إبقاء السلاح بيدِ «حزب الله» بحجّة المقاومة التي هي مجرّد غطاء للتدخّل السوري والإيراني في الشؤون الداخلية، ومنع قيام الدولة اللبنانية السيّدة على أرضها وقرارها.
فالعماد عون بهذا المعنى لم يُجرِ أيّ تحوّل في خطابه السياسي يستحقّ الانفتاح عليه من قبيل اتّخاذه موقفاً واضحاً من سلاح «حزب الله» ودعوته إلى تسليمه اليوم قبل الغد، وأمّا الثلاثية الجديدة التي وضعها بأنّه والرئيس سعد الحريري والسيّد حسن نصرالله يشكّلون «مثلّث قوّة للبنان» فيستحيل أن يقبل الحريري بها إلّا في حالة واحدة: عودة «حزب الله» بخياره الاستراتيجي إلى لبنان وتسليم سلاحه، لأنّ خلاف ذلك يعني التحالف مع الحزب على قواعد مصلحية وإبقاء القرار الوطني ممسوكاً من قِبله، وفي اللحظة التي تتعارض فيها المصالح المشتركة ينقضّ مجدّداً على الحريري.
فالثلاثية الجديدة لعون تعني التحالف مع «حزب الله» بشروط الحزب، ومن ثمّ من قال لعون إنّ الحريري بحاجة «لمكافأة» من نوع الانفتاح عليه وترقيتِه من مرتبة إلغائه وشطبِه إلى مسامحتِه ومغفرةِ خطاياه، وكأنّه هو مَن اخترع الـ»One way ticket»، والعشب سينمو على مدخل «بيت الوسط»، والإبراء المستحيل، و7 أيّار أعادت «التران على السكّة»، وإهانته بإسقاط حكومته لحظة دخوله إلى البيت الأبيض، وتغطية الاغتيالات وتبريرها، والدفاع عن الرئيس السوري بشّار الأسد، وشنّ حملات شعواء على السُنّية السياسية والوهابية وأسلمةِ الأرض والمؤسسات، ومحاكمة الشهيد رفيق الحريري في قبره، وفتح قبور الحرب ومآثرها، واغتيال الشهيد بيار الجميّل مرّتين عبر الترشّح ضدّ الرئيس أمين الجميّل في انقلابٍ على كلّ التقاليد والأعراف والعلاقات الإنسانية والمحطّات فوق البشرية...
ثانياً، أن يصبّ الانفتاح على عون في مصلحة تحالف 14 آذار لا أن يكون على حسابه أو على حساب بعض مكوّناته، أي أن يتحوّل عون إلى جزء لا يتجزّأ من هذا التحالف، ولكن أن يكون الهدف من مدّ الجسور مع «المستقبل» الالتفاف على مسيحيّي 14 آذار وشطبهم من المعادلة الوطنية، فهذه جريمة ليس بحقّ هذه المكوّنات فقط، إنّما بحقّ الوطن، لأنّه يتمّ استبدال قوى سيادية أولويتها لبنانية، بقوّة ملتحقة بمشروع «حزب الله»، ما يعني ترجيح كفّة الخيار غير السيادي على الخيار السيادي. وقد فعل خيراً الحريري بأنّه ربَط انتخاب عون رئيساً بموافقةِ مسيحيّي 14 آذار.
ثالثاً، أن يكون الانفتاح على عون على طريقة «عودةُ الإبن الضالّ» الذي شكّل خروجه في العام 2005 عن أدبيّاته السيادية أضراراً بالغة بالمشروع السيادي، حيث إنّ تحالفَه مع «حزب الله» شجّع الحزب على التهيئة للانتفاضة المضادّة، وبالتالي لولا وثيقة التفاهم لكانت الأمور اتّخذت بالتأكيد مساراً مختلفاً، وهذا المسار لا يعني نزع سلاح الحزب حُكماً، إنّما دفعه إلى تنازلات تُعيد الاعتبار لمشروع الدولة.
ولذلك يتحمّل عون مسؤولية كلّ المسار التدميري بين عامَي 2005 و2014، كما تفويت الفرصة على اللبنانيين لاستعادة قرارهم، وهذه ليست المرّة الأولى التي يُفوّت فيها على اللبنانيين فرصةً من هذا النوع، حيث كان سبقَها فرصة اتّفاق الطائف الذي أدّى تمنّعه عن تنفيذه إلى سورَنةِ تنفيذ هذا الاتفاق.
والسؤال الذي يطرح نفسَه: هل تراجُع عون عن شطب آل الحريري من المعادلة ناجمٌ عن تبدّل في قناعاته الميثاقية بأنّ لبنان لا ينهض إلّا بكلّ مكوّناته، أو لاستحالة هذا الشطب، خصوصاً بعد الثورة السوريّة؟ ومَن منعَ عون من لعبِ هذا الدور منذ العام 2005 بأن يطرح نفسَه الجسر بين الرئيس الحريري والسيّد نصرالله؟ وهل كان يجب أن يدفع لبنان كلّ هذه الكلفة ليقتنعَ عون بأنّ كلّ مشاريع الإلغاء مستحيلة؟
يستحقّ شعب 14 آذار اعتذاراً من الجنرال عون على الإساءات التي تسبَّب بها وأدّت إلى ما أدّت إليه من كوارث وطنية، وما دون هذا الاعتذار يُعتبر الانفتاح على عون جريمةً بحقّ شهداء انتفاضة الاستقلال، وبحقّ الأهداف الوطنية التي تحملها ثورة الأرز، وبحقّ مشروع «العبور إلى الدولة».