على رغم الإقرار بأنّ العماد ميشال عون يتقن فنّ التكتيك السياسي، وينجح في معظم الاستحقاقات في تسويق وجهة نظره ووضع خصومه في موقع ردّ الفعل، إلّا أنه في الاستحقاق الأحب إلى عقله وقلبه أخطأ في إدارة معركته.
الخطأ الأبرز الذي ارتكبه عون كان رفضه المنازلة الرئاسية مع الدكتور سمير جعجع تحت عنوان أنه مرشح توافقي، كما إصراره على دعم «المستقبل» له، الأمر الذي جعل «حزب الله» يتذرع بتوافقيته للتهرب من دعمه المعلن واستطراداً الضمني، فيما كان الأولى بعون أن يضمن تأييد فريقه المطلق له ويعمل على تحييد «المستقبل» لا نيل تأييده، ويركز جهوده على توفير الـ65 صوتاً بمؤازرة الحزب.فخطأ عون أنه ركز جهوده في المكان الخطأ، أي على «المستقبل»، فيما معركته الأساسية تكمن في استمالة المرشحين المستقلين بالترهيب والتهديد بواسطة عضلات «حزب الله»، كما استمالة الأصوات الجنبلاطية أو البعض منها بالطريقة نفسها.
فهو أقصى ما يجب أن يطمح إليه تحييد «المستقبل»، وقد حصل على هذا التحييد انطلاقاً من رغبة الرئيس سعد الحريري قطع الطريق أمام محاولات استخدام فريق من المسيحيين ضده، ولكن أن يطمح عون بتصويت «المستقبل» له ينم عن عدم واقعية سياسية، لأنه يضعه في مواجهة مع حليفه وحتى مع شارعه، كما أنه ليس مضطراً أن يفتح جبهة مسيحية جديدة ضده في الوقت الذي يعمل فيه على تبريد الجبهات الأخرى.
وقد سمح عون لـ»حزب الله» من خلال إدارته للمعركة الرئاسية بالتفلّت تحت عنوان أنّ دعمه المعلن يجعله مرشح فريق، فيما لا يخفى على أحد أنه كذلك وأنّ توافقيته مزحة، لأنّ التوافقية تبدأ من داخل الساحة المسيحية لتنسحب وطنياً، فيما انفتاحه على «المستقبل» وضربه عرض الحائط بنصيحة الحريري بأخذ موافقة مسيحيّي «14 آذار»، كما اقتراعه الانتقامي بنكء الجراح في المجلس، دلّ الى أنّ هدفه الوصول إلى الرئاسة الأولى عن طريق حليف مسيحيّي «14 آذار» لتطويقهم وضربهم.
وكان الأولى بعون أن يكتفي بالتقاطع مع الحريري على عنوان تعليق المواجهة وليس الذهاب أبعد من ذلك، لأنه مضيعة للوقت والجهد، حيث استفاد «حزب الله» من التراخي العوني حياله ليذهب بعيداً في مواقفه الداعية إلى انتخاب رئيس بعيداً من ترسيمات الانقسام العمودي القائم، ويترك النائب جنبلاط على سجيته وحريته باعتماد الطريقة الأنسب لخوضه المعركة الرئاسية عبر اختيار مرشح يخضع لنفوذه وكان في صفوف «14 آذار» .
فخطأ عون الذي كلفه الرئاسة أنه ريّح «حزب الله»، فيما كان يجب أن يتسفيد من استمرار حاجة الحزب للتحالف معه طالما أنّ التسوية السعودية-الإيرانية لم تبرم بعد، وبالتالي حشره باتخاذ مواقف علنية من ترشيحه ومطالبته بجعل إيصاله إلى الرئاسة الأولى معركة من معاركه على غرار خوض الحزب معركة إيصال الرئيس نجيب ميقاتي إلى السراي الحكومي، ولكن شتان ما بين معركة إيصال ميقاتي ومعركة إيصال عون، حيث لم يبذل أيّ جهد، ولا بل ظهر في محطات عدة بأنه يتكئ على رفض الحريري لتجنّب انتخاب عون رئيساً.
وقد تكون الظروف بين عامَي 2011 واليوم مختلفة، ولكنّ ميزان القوى في لبنان ما زال لمصلحته، خصوصاً لجهة امتلاكه السلاح وتلويحه باستخدامه عند كل محطة، فضلاً عن أنّ الجهد الذي كان باستطاعة الحزب القيام به ليس كبيراً، كونه ينطلق من 57 صوتاً، وهناك ما يقارب خمسة نواب مستقلين وقريبين من «8 آذار»، وبالتالي «إقناع» 3 أو 4 نواب على طريقة الحزب بالاقتراع لعون ليست مهمة مستحيلة، بل من أبسط ما يكون، غير أنّ «حزب الله» ترك جنبلاط يغرّد بعيداً واكتفى بالوقوف خلف عون وكأنه بانتظار أن يعلن فشله للانتقال إلى مرشحه الفعلي والحقيقي.
وفشل عون متوقع، لأنّ الطريق التي سلكها يمكن أن توصله إلى أيّ مكان إلّا إلى بعبدا، ونظرية أنه يرفض الرئاسة إلّا في حال التوافق عليه سنّياً وشيعياً وهمية، خصوصاً بعدما نجح بالتطبيع مع «المستقبل» الذي تعامل مع ترشيحه على قاعدة عدم الممانعة بوصوله ولكن عن يد غيره.
وانطلاقاً مما تتقدم فوّت عون على نفسه فرصة انتخابه رئيساً، إذ عوضاً من أن يجعل المجلس النيابي هو المكان لفوزه، و»حزب الله» الوسيلة لتأمين هذا الفوز ولو رغماً عن إرادته، لأنّ لا خيار أمامه، عطل النصاب في المجلس ووضع ترشيحه على طاولة المفاوضات الدولية والإقليمية وقصد روما وباريس للقاء الحريري، متناسياً أنّ أقصر الطرق إلى بعبدا بالنسبة إليه هي الضاحية، خصوصاً في ظلّ مناخ دولي انهزامي أولويته الاستقرار ولو بواسطة «حزب الله»، ومناخ سنّي نجح عون بتحييده.
وهذا الكلام ليس المقصود منه إطلاقاً التحسر على عدم وصول عون، إنما عرض الوقائع التي تثبت أنّ مَن يرفض رئاسة عون هو «حزب الله» قبل «المستقبل»، وأنّ عون سيدفع ثمن خطأ إدارته للمعركة الرئاسية، وما فات لم يعد بالإمكان استلحاقه.