ليس لدى الجنرال ما يقدمه غير القتال والمزيد منه. وليس لدى جنرالات الحرس الثوري غير الاعتداد بنفوذ ايران في المنطقة، لا سيما هذا الهلال الذي يرتكز على مكوّن مذهبي يصير طيّعا من العراق الى سورية ولبنان كلما انفجرت الحروب واشتعلت بطاقة المذهبية الملتهبة. لكن بعد إلقاء نظرة على هذا الهلال الطالع من بلاد فارس الى حدود جنوب لبنان يمكن ملاحظة أنّ ألوانه تبهت يوما بعد يوم، لأنّه يفتقد شرط الانتقال من حال الهلال الى اكتمال البدر واشعاعه. إذ فيما يتصاعد نفوذ ايران على خريطة الهلال، تجمع هذه الخريطة خيوط دولِ فاشلة، من العراق الفوضوي إلى لبنان المتداعي إلى سورية المنكوبة إلى إيران الجائعة.
يعرف أبناء العراق قبل غيرهم أنّ نفوذ ايران وسيطرتها على هذا البلد لا يُقارَنان بأي نفوذ دولي آخر. فالجنرال قاسم سليماني هو من يصوغ التحالفات في أيّ حكومة عراقية، وأيّ انتخابات نيابية، وصولا الى المحافظات. والجنرال هذا يستطيع أن يسمّي رئيس الحكومة حتّى لو كان هناك من يتقدمه في عديد مؤيديه في البرلمان. فهو ضابط الإيقاع بين المكوّنات السياسية الشيعية، يقرّر خريطة التنافس وحدود الصراع في ما بين مكوّناتها. باختصار تتعدد الحسابات السياسية ويسير العراق من فشل الى فشل. ففي العراق الغنيّ بالنفط لا مكان للرخاء، بل إنّ الفقر متلازم مع الفساد الذي بات سمة الادارة السياسية والاقتصادية.
وبين اقليم كردستان وبقية الاقاليم العراقية يلاحظ العراقيون كما غيرهم أنّ هناك نهضة انمائية غير مسبوقة في التاريخ في كردستان بخلاف بقية مناطق العراق. ففي تلك البقية من الجنوب الى الانبار وبغداد العنوان هو: الدولة الفاشلة. يكفي الاشارة الى أنّ الحكومة العراقية لم تنجح في معالجة أزمة الطاقة الكهربائية. يكفي هذا ليدلّل إلى الفشل. أما الفساد في السلطة والادارة العامة فقصصه محل تندر العراقيين ومأساتهم. وكلما زاد تورّط مسؤول او مجموعة حزبية في نهب المال العام أوغل المتورّطون هؤلاء في شدّ العصب المذهبي لتبييض الاموال المنهوبة.
ايضاً لا يتوقف القتال على الركام السوري. فبقاء النظام السوري هو اهم ما في استراتيجية الممانعة. “النظام” هو اهم من كلّ هذه الدماء التي سالت انهارا على التراب السوري. فقد دعمت ايران نظام الاسد ولا تزال… ولسان حال الجنرال عينه: القوّة ليست الا في القتال ولو على الركام وجثث الموتى واكوام اللاجئين وعلى شطر الكيان والدولة والمجتع اطيافا ومذاهبَ اين منها العراق ولبنان. الخطة هي التالية: القتال ثم القتال في حروب اهلية ومذهبية.. والانتصار هو بقاء الاسد، بالقوّة أو بانتخابات فارغة، بقوّة الطائفية، أو بمقولة حلف الاقليات… لا يهمّ.
وفي لبنان ايضاً وايضاَ لا شيء له معنى ضمن هذه الاستراتيجية الا القتال. السلاح يجب ان يحكم ويسيطر. السلاح هو القيمة الاساسية التي يجب ان تُقدَّس والقوة العسكرية هي معيار التفوق والتميز. في لبنان ثمة دولة تراكم الانهيارات والتراجعات. والمسؤولية عن الانهيارات تتوزّع على كل سبب يمكن رمي المسؤولية عليه الا السلاح. ولأنّ السلاح كذلك يحوّل المجتمع الى ما يشبه الكتائب العسكرية المتقابلة يتترّس بعصبياته الضيّقة ويقدّس الخاص ويرذل العام والمشترك الوطني. وهو نفسه، السلاح، يتحوّل إلى خاصّ في مقابل المشترك العام. سلاح مهما قيل في تبجيله يبقى طاقة عصبية غايتها تطويع الناس أو إرهابهم وفرض اولوياته على يومياتهم وزيادة منسوب العداء في ما بينهم.
لبنان يكمل خطّ هلال الدول الفاشلة. لا همّ إذا كان ثمة نجاح في القتال وبراعة في الاقتتال المدمّر للدولة والمجتمع. ولا همّ إذا لم يوفر السلاح السبيل الى نهضة البلد، ولم يرسم خطّة نهوض اقتصادي، بل ويزيد من العاطلين من العمل. من أولئك الذين لا يجدون الى الحياة الكريمة سبيلا فيمتشقون وظيفة “مسلّح” في انتظار مجهول ومن اجل اثبات وجود فارغ. هي نفسها في المثلّث من طهران إلى الشام وبيروت: الدولة فاشلة وحرفة السلاح خبرها الإيرانيون واللبنانيون، واليوم السوريون، وعرفوا أنّها دمّرت أكثر مما عمّرت وحمَت.
أما فلسطين فبعيدة جداً. فبعدما كشفت الممانعة عن وجهها، تبيّن جليّا أنّ كلّ هذا القتال في سورية وكلّ هذه القداسة للحفاظ على نظام الاسد، لم تحظَ به فلسطين فعلياً. فهي ليست اولوية وان كانت ذريعة او ورقة توت طالما أخفت عورات وسوءات من أتاحوا لأنفسهم باسمها أن يستبيحوا مجتمعات وشعوباً. مشروع الممانعة من إيران إلى العراق وسورية ولبنان، ليس فيه فلسطينيون. أبناء القضية الفلسطينية لا يرون في بقاء الاسد وتقديسه خدمة لفلسطين ولا في نجاح مشروع المالكي في العراق انتصارا للقدس، ولا في الانقسام اللبناني حول السلاح، سواء كان في المخيمات الفلسطينية أو في ايدي الممانعة وخصومها، تقدّما نحو تأمين حقوق الشعب الفلسطيني.المقاومة ليست سلاحا ولا نفوذا وقوّة ترفدها العصبيات وتقوى على انقسام المجتمعات، وتنتصر على ركام الدولة والمجتمع. المقاومة شيء آخر ليست موجودة في هلال الفشل والدمار والموت، غير الخصيب إطلاقا.