قلّة هي الشبكات الفاعلة في بنية المجتمع المدني، رغم كثرة عناوينها وفئاتها واهتماماتها، واختصاصاتها، وخصوصاً تلك الرادمة للفجوات الاجتماعية، وأزماتها المفتوحة، على الإدمان الفاتك بالجسم الإنساني، وواضع الأسر اللبنانية في مساوئ النتائج المفككة لإرتباطاتها العضوية، والمُمَزق للحمة وحدتها.
إنّ تعاطي المخدرات، ورغم بحث الأجهزة الرسمية، عن أسبابه، ووضع الحدود لزراعتها وتعاطيها والإتجار بها، ما زال قائماً على قدم وساق، وناشط في البيئات الاجتماعية كافة، ورغم المساعدة التي توفرها بعض الجمعيات والمؤسسات، للمساهمة في الحدّ من انتشار مرض تعاطي المخدّرات، والقيام بأعمال التأهيل المناسب للمدمنين بغية إعادتهم أصحاء إلى المجتمع، إلاّ أنّ ظاهرة التعاطي تنشط بطريقة هستيرية، بحيث أصبحت متغلغلة في الكثير من البيوتات اللبنانية. الأمر الذي استدعى بعض السياسيين، وقلّما ينتبه السياسيون إلى هذه الأنواع من القضايا المصيرية والحساسة، إلى الإشارة بإصبع الخطورة إلى تفشي ظاهرة الإدمان على المخدرات في المناطق الفقيرة بعد أنّ كان مجالاً حيوياً مفتوحاً أمام الأغنياء.
باتت مؤشرات الإدمان في لبنان مرتفعة الأسهم، وتؤكد الدراسات الرسمية على ارتفاع ملحوظ في نسب المتعاطين، وتحيل المسببات إلى جملة عناوين تتراوح ما بين الفوضى بشقيها السياسي والاجتماعي، وغياب أجهزة المراقبة، بشقيها الرسمي والمدني، لعدم تمكنها من القيام بواجباتها، في ظل غياب قهري وقسري كامل للسلطة المركزية، وتمتع المتاجرين والمدمنين بحماية طائفية ومذهبية تسهّل لهم أعمالهم في الاتجار و"التنسيم" والحقن، وأنصاف البودرة القاتلة. فاجأتني في الجنوب مجموعة تسعى إلى مكافحة المخدرات بواسطة التأهيل، وهي تعتمد بشكل مباشر على تبرّعات المواطنين، والمفاجأة في الموضوع أن الجمعية التي تعمل تحت عنوان "أمهات ضد المخدرات" وتحت علم وخبر 75/أ.د.، واسمها "الشبيبة لمكافحة المخدرات"، هي مؤسسة مسيحية بحسب الهويات المقطوعة في ظل تصنيفات واقع التركيبة الطائفية للنظام اللبناني، ويرتبط بالجمعية عدد من الجنوبيين الذين يوفرون لها دعماً مادياً من خلال الاشتراكات الشهرية أو الفصلية، واللافت أنّ من بين المشتركين أشخاصاً من فئات رجال الدِّين، وهذا ما أثار سرور وغبطة العاملين في الجمعية لجهة اهتمام هذه الفئة بموضوعات لبنانية، وبواسطة سُعاة مسيحيين، وفي مجالات عادة لا يلتفت إليها رجال الدِّين، إلاّ كعناوين للرذيلة. ويقدّم مندوب الشبيبة لمكافحة المخدرات للشيخ المشترك وللمتبرعين صوراً لبنانية قديمة تذكر بذاكرة العيش المشترك، وعن لبنان ما قبل الحرب، لعلّ اللبنانيين يحسنون قراءة الماضي على ضوء الحاضر، فتستيقظ فيهم روح من الوطنية الميتة في مدافن الآخرين. أن تعمل مؤسسة مسيحية وسط مساحة إسلامية، في ظل الانقسامات الطائفية الحادة وسيطرة مفاهيم الطوائف على المفاهيم الوطنية، ثقة وطنية كبيرة يمكن التأسيس عليها، لبناء جسور متبادلة في المجالات الاجتماعية، لعلّ ما أفسده السياسيون اللبنانيون يصلحه المدمنون على يد قدرة وطنية من قدرات المجتمع المدني.