خلال سنوات الوصاية السوريّة، وحين فُرض بالقوّة ذاك الإجماع الكاذب على مقاومة حزب الله، ساد لون محدّد من الكلام هو الذي يلتقي مع الخطاب الرسميّ السوريّ أو يعيد صياغته. هكذا كادت كلّ بسملة تُسبّق بالشكر لـ"سوريّا الأسد وجيشها الباسل"، وكادت كلّ حمدلة تُسبّق بشتم أميركا وحلفائها... وقس على ذلك.
هذه الصورة الروبوتيّة، الكوريّة الشماليّة، التي أريدت واقعاً للبنانيّين، دلّت إلى أمور ثلاثة متلازمة:
الأوّل، منع التفكير والاجتهاد الشخصيّين بوصفهما خيانة وانحيازاً لـ"العدوّ القوميّ"، وهذا علماً بأنّ مَن يعرّف الخيانة ويملي دفتر شروطها هو أكثر من ولّى هارباً أو مهزوماً من أمام "العدوّ القوميّ" هذا.
الثاني، رفع السياسة المعمول بها والأفكار التي تصاحبها إلى مصاف المقدّس. وغنيّ عن القول إنّ كلّ سياسة وأفكار أخرى تُحال، والحال هذه، إلى المدنّس، وتلقى بالتالي الرجم والتحريم. وهذا من نتائج إخضاع الحياة اللبنانيّة، وللمرّة الأولى في تاريخها الحديث، لإيديولوجيا رسميّة تحدّد لشعب من القاصرين ما هو المقبول وما هو الممنوع.
لقد كان واضحاً أنّ هذه السمة، التي صدّرتها إلى لبنان الحياةُ "السياسيّة" السوريّة، المتمحورة حول الزعيم القائد والحزب الطليعيّ، تتعارض كلّ التعارض مع حياة ديمقراطيّة وتعدّديّة يقال إنّ اللبنانيّين أرادوها لأنفسهم.
الثالث، ميل القيّمين على الأوضاع من حرّاس الوصاية إلى نزعة ثأريّة حيال التاريخ الاستقلاليّ للبنان، وهي نزعة لا تتساهل مع أيّة نأمة تُشتمّ منها رائحة الوطنيّة اللبنانيّة. ذاك أنّ الذين يذكّرون بهذه الأخيرة، أو تخطر لهم محاولة استعادتها، لا يعدون كونهم متعاملين مع إسرائيل أو عملاء لها.
برحيل القوّات السوريّة عن لبنان، إثر اغتيال رفيق الحريري في 2005، ومن ثمّ سقوط الإجماع الكاذب حول سلاح حزب الله و"قدسيّة" مقاومته، بدأت تلك الصورة الروبوتيّة تهتزّ وتتصدّع. واليوم تتكاثر الأصوات التي غدت تتجرّأ على قول ما كان محرّماً قوله، وعلى إعلان القطيعة مع المثال الكوريّ الشماليّ.
وليس من المبالغة القول إنّ هذا التجرّؤ المتنامي أهمّ الظاهرات الصحّيّة التي تسجّلها الحياة الثقافيّة اللبنانيّة اليوم. ذاك أنّه من دون بتّ هذه المسألة المحوريّة، تبقى مسائل الحرّيّات الأخرى جزئيّة وعارضة، بل ثانويّة، على أهميّتها.
وبالضبط بسبب هذا المناخ الذي يكنس تدريجاً خرافات زمن الوصاية، تستكلب القوى الرجعيّة في دفاعها عن الخرافات إيّاها. لكنْ حيث لم تنفع الاغتيالات لن ينفع التشهير والتخوين والبذاءة والوشاية. فالظروف التي منعت ثلثي اللبنانيّين من الكلام زالت، ووحده العبد مَن لا يمدّ يده إلى حرّيّة تلوح في أفقه.