تأسست النجف على تراث بغدادي طوال القرن الرابع الهجري , هذا القرن الذي حفل بكثير من الابداعات وكان مزدهرا بانتاج الفكر والثقافات
هذا الجو الابداعي كان ظاهرا بوضوح في السياقات الاجتماعية لتلك الفترة , وكان يظهر أثره بشكل ابرز واوضح في المفاصل الصعبة , مثلا في ثورة الدستور الشهيرة في الدولة العثمانية , والمستبدة والمشروطة التي كان قادتها من اصول نجفية , ومن علاماتها رسالة تؤكد إنحياز النجف للديمقراطية بعد الموقف الشهير الذي أصّل فكرة الدولة الحديثة والديمقراطية , وخرجت رسالة من فقهاء الشيعة الى الشاه القاجاري في طهران تهدده اذا لم يطبق الدستور , ورسالة ثانية الى السلطان محمد رشاد في اسطنبول تؤيده باسم الشيعة والحوزة وتشجعه على الوفاء بوعده في تطبيق الدستور , ومن العلامات البارزة أيضا في هذا المجال , ان النجف التي عانت من التخلف والقمع والتمييز العثماني من ضمن معاناة العراق العامة إختارت ان تكون الى جانب الدولة العثمانية ضد المحتل حتى من دون تدقيق في حسابات الربح والخسارة , بل عملا بموجبات الوحدة والتوحيد التي كانت الدولة العثمانية رمزا لها رغم جورها .
ولم تقصّر النجف مع المعارضة التاريخية في ايران من المدرسي الى كاشاني الى مصّدق وتظاهرات عام 1956 ضد العدوان الثلاثي على مصر ودفعت الثمن راضية عددا من الشهداء وخرجت منها الوفود بعد النكسة 1967 بتوجيه من مرجعها آية الله السيد الحكيم لتستنهض الدول والشعوب العربية والاسلامية من أجل مقاومة الاحتلال وإزالة آثار العدوان واحتضنت المقاومة واستقبلت طلائعها واحتفت بهم , والجامع الهندي شاهد والفتاوى التي صدرت بالدعم شواهد , وذكرى حضور الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء المرجع الشهير حضورا مميزا وفاعلا في مؤتمر القدس عام 1931 وإمامته للمؤتمرين من كبار علماء المسلمين والقيادات الاسلامية في العالم .
هذا كله شاهد على خيارات النجف الاشرف المبدئية والجهادية المحكومة بالعلم والتقوى والحلم بالعدالة وذاكرة الايمان والفكر والادب ووحدة المصير .
الى ذلك كانت النجف ومن موقعها العلمي والادبي في كل العصور تمارس دورها القيادي في الرقابة على السلطة والاعتراض والاحتجاج على الجور والفساد والتبعية للخارج ومن هنا يمكن لنا ان نفسر لماذا كان عداء النظام الصدّامي البائد شديدا لهذه الجامعة العتيدة وسعيه الدائب واللئيم لتقويضها وتشتيتها وتخريبها والغاء دورها واستتباعها وتحويلها من ضمير الى مذعن ولكنها صبرت وصبرت , بكت على شهدائها دمعا ودما ولكن حبرها لم يجف ظلت تقرأ وتكتب وتبحث وتدرس وتدرّس وتكتب شعرا ونثرا في داخلها في أضيق الظروف وأصعبها وظلت بيوت علمائها ومراجعها البسيطة علامات صمود ومعاندة على طريق العلم والفكر والجهاد والصبر على الظلم ورعاية المظلومين وكانت آثارها تمتد الى الخارج لتتحول الى جامع رمزي للشعب العراقي في الشتات ولعلمائه وقياداته وشعرائه ومناضليه ولم تلبث بعد سقوط النظام أن تصدت الى دورها العلمي الذي ينتظر الجميع ان يعود الى عهده العريق في الانتاج والابداع كما عادت الى موقعها الرعائي من دون مصادرة ومن دون الغاء للعملية السياسية وحركة بناء الدولة .
حين يشهد المنصفون بأن النجف وعقل النجف ما زال متقدما على عقل الطبقة السياسية التي لا تسلم من نقد الحوزة والمراجع على أدائها .
هذه الحوزة الام كان لها بنات انجبتهن أيام عزّها وعلا نجمهن العلمي والفكري ولكن النجف بقيت هويتهن ومثالهن و أما البنات التي انجبتهن في عهود الحصار والقمع والتشتيت فإنهن أينما ذهبن يشعرن بأن أهليتهن تبقى ناقصة من دون المرور بالنجف والاقامة فيها والتعلم منها بحيث تدخل في تكوين علماء الشيعة وذوقهم ووجدانهم .
ان المنصفين لا يبخلون بالاحترام والحب على أي حاضرة علمية ولكن الانصاف لا يكتمل الا بالاعتراف للنجف بميزتها وأصالتها وضرورتها وضرورة نهوضها .