إن نظم الاستبداد التي صادرت الإسلام الأصيل لم يكن في وسعها – منذ عصور الانحطاط الإسلامي مروراً بالعصر العثماني وانتهاء بمرحلة الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين – إلا البحث عن قاعدة مضمونة لسلطة الاستبداد، ووجدت في إثارة العداء والحذر بين الطوائف والمذاهب والقوميات والاتنيات التي يزدحم بها العالم الإسلامي وسيلة ذهبية لتمكين سلطة الاستبداد وترسيخها، فإذا العلاقة بين الجماعات المتعددة داخل المجتمع الإسلامي والتي كانت علاقة تفاعل واعتراف في ظل المرحلة الإسلامية الصاعدة تغدو علاقة صراع وتنافر ونفي ونفي متبادل في ظل مراحل التراجع المشار إليها. كان لا بد من هذه المقدمة التي أرادت أن تشير إلى الخلفية التاريخية الثقافية لانحسار فرص التعدد في المجتمعات العربية والإسلامية عموماً، والتي تبدو الهجرة المسيحية وجهاً من وجهوهها، بالإضافة إلى الوجوه الأخرى التي تتمثل في أزمات المجتمع العربي التي أشار إليها سؤال “الملحق” عن الديموقراطية وغياب المجتمع المدني وهيمنة الأنظمة الديكتاتورية وانتكاسة الفكرة العلمانية، حيث يشكّل ذلك كله تهديداً للثقافة العربية في أبرز وجوهها: التعدد والتنوع. أقول، كان لا بد من المقدمة السالفة لتساعد القارئ في فهم وجهة نظرنا حيال السؤال الذي سنطرحه بعد قليل، وحيال الإجابة التي نتبنّاها لهذا السؤال وهو الآتي: إذا كان انحسار الإسلام الأصيل (الرسالي) هو الذي مكّن من قيام نظام الاستبداد من جهة ومكّن من ضرب قيم التعدد والتنوع في المجتمع الإسلامي، فهل يكون العلاج في الاتيان بنظم جديدة بديلاً من الإسلام تمكّننا من استيعاب قيم التعدد والتنوع، مع العلم أن الإسلام ليس هو العقدة وليس في المجتمع الإسلامي كما أشرنا في بداية هذه الصفحات، بل كان الإسلام في عصور ازدهار المجتمع الإسلامي ضامناً لهذه القيم؟

الجواب عن هذا السؤال – كما نراه – هو أن أي محاولة لاستعادة قيم التعدد والتنوع للمجتمع الإسلامي لا يمكن أن تتم من خلال تهميش قيم الإسلام واستبعاده، لأن هذا ما طرحته العلمنة العشوائية وتياراتها التي وضعت العلمنة في مواجهة الإسلام ولم تستطع أن تقوم باكتشاف جوهر العلمنة في عقيدة الإسلام وبنيته التشريعية والثقافية ورؤيته لمسألة الاجتماع والاجتماع السياسي، فكانت النتيجة أن العلمنة المعادية للإسلام مثلما طرحتها تلك التيارات فوتت الفرصة على عملية تجديد حقيقي من داخل البنية الإسلامية نفسها، وكان هنالك من مفكري عصر النهضة من يدعوا إلى هذا المنحى من التجديد. ولكن بكل أسف، فإن العلمنة، التي أخذت بها النظم السياسية في المجتمعات الإسلامية بعد قيام الدولة القطرية التي أعقبت انهيار الكيان العثماني، كانت علمنة كاذبة من جهة لأنها كانت مظهراً لتجميل استبداد السلطة، ومن جهة أخرى كانت مستفزّة للإسلام. وبدت كأنها من صنع الاستعمار الغربي وأن غايتها الوحيدة الحلول محل الإسلام في النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية للمجتمع. من هنا، فإن مواجهة أزمات الديموقراطية وغياب المجتمع المدني وهيمنة الأنظمة الديكتاتورية، وتالياً استعادة قيم التعدد والتنوع للثقافة العربية الضامنة لحماية التنوعات التي يزخر بها المجتمع العربي والعربي الإسلامي، ومن أبرز مظاهرها الحضور المسيحي التاريخي الكبير الذي تشكّل هجرة المسيحيين الآن تهديداً لسويته الحضارية، تتطلب في أساس ما تتطلب حركة ثقافية تهدف إلى تجديد الإسلام الراهن والكشف عن طاقات قبول الآخر في عمق بنيته العقيدية والتشريعية.

وهذا الأمر يتطلب معركة ثقافية ضد كثير من البنية المسماة بالأصولية الإسلامية التي ما زالت تصدر في رؤيتها للإسلام عن أعطاب حقيقية في رؤيتها للإسلام ورؤيتها لتحديات العصر، وتميل إلى إنتاج إسلام لا يتضمّن سوى العقدة من الغرب وهي عقدة لا تسمح لهم بالإقتناع أن الديموقراطية والتعدد وحقوق الإنسان وغيرها من السياسية والاجتماعية المهمة، وإن كانت قد نشأت في بيئة غربية إلا أنها من القيم التي يحتاج إليها البشر في كل مناطق الدنيا وأن المسلمين ومجتمعاتهم المتنوعة في حاجة إليها وأن الإسلام نفسه لا يضيق عنها. إن معركة تجديد الإسلام وفق هذه الرؤية الأصيلة هي في نظرنا معركة شاملة لمواجهة الاستبداد في كل أشكاله السياسية والمدينية والمذهبية التي تزخر بها المجتمعات العربية والتي سينجم عنهم المزيد من الهجرة لا هجرة المسيحيين العرب فحسب وإنما هجرة كل الأقليات، أي التفتيت الكامل للمجتمعات العربية حيث أن المجتمعات العربية – في جوهر حقيقتها – ليست إلا حصيلة لقاء أقليات لا حصر لها من قوميات وأديان ومذاهب وملل ونحل وتيارات قابلة لمزيد من التشظّي والانهيار والتمزق، ولا سبيل للحفاظ على وحدة هذه المجتمعات بتعددها وتنوعاتها إلا من خلال مشروع ثقافي وسياسي نستمدّه من قيم الإسلام الأصيل وقيم المسيحية الأصيلة في درجة أساسية، ونستمده من إنجازات عصرنا وتحدياته في آن واحد.

*(ج2 واخير من نص نشر في ملحق النهار 10 كانون الثاني 1998)