كيف أمكن للناس من بلدان ومدن، من الأمم أن يحتملوا أحياناً طاغية واحداً، لا يملكون من السلطان إلاّ ما أعطوه، ولا من القدرة على الأذى إلاّ بقدر احتمالهم الأذى منه. والسلطان لا يستطيع إنزال الشرّ بهم لولا إتياءهم الصبر عليه بدل مواجهته. من العجب أن نرى الملايين من البشر يخدمون في بؤس، وقد غُلّت أعناقهم دون أن ترغمهم على ذلك قوّة أكبر، بعد أن سحرهم وأخذ بألبابهم مجرّد الاسم الذي ينفرد به السلطان. إتيان دي لابويسيه (1530) يثير في مقالته: العبودية المختارة ثورة على الشعب عن الطاغية، ويحمل مسؤولية الخنوع والخضوع له، معتبراً أن لا طاغية دون قهر داخلي يعطي المُستبد أسباب استبداده.
إننا أمام صرخة قديمة أهميتها أنها ما زالت تتردد داخل الأزمنة، إنها اداة مواجهة مع الطغاة ومع شبكاتهم التي توفّر له عناصر الفساد والقسوة، من يقرأ مقالة في العبودية المختارة يشعر بأن إتيان لم يولد عام 1530 بل هو مولود في الأعوام كافة وليس فرنسياً اليوم، وإنما عربياً يعاين طغاة العرب وخنوع الشعوب لهم طواعية لأنهم أسقطوا من داخلهم قوةّ الرفض للاستعباد والاتصال بالحرية من موقع الشهادة لها.
يخطئ من يحسن الظن، بأنّ الرّماحة والحرس، وما يحيط مملكة الطغاة من أبراج مراقبة بقادرين على توفير الأمن والحماية لأسياد السلطة المستبدة، وما هي إلا نكتة سلطوية لإثارة الفزع والخوف في قلوب الرعية. فالقوّاسة برأي "دي لابويسيه" تصدّ من لا حول لهم ولا قوّة على اقتحام القصر، ولكنها لا تصدّ المسلحين القادرين والمالكين للقوّة ولوسائل العزم، ويضيف قائلاً: من السهل أن نتحقّق من أنّ أباطرة الرومان الذين حماهم قوّاسوهم يقلّون عدداً عمن قتلهم حراسهم. فلا جموع الخيّالة، ولا فِرق المُشاة، ولا قوّة الأسلحة بقادرة على حماية الطغاة، فهناك وسائل أخرى تبقي الطاغية في مكانه، ومن بينها الدائرة المحيطة بها، أي الفروع الإنسانية في شجرة الطاغية، أي العناصر القريبة منه حدّ الالتصاق وهي التي تشدّ البلد كله إلى مقود العبودية.
في كل عهد ثمّة أشخاص تصيخ إليهم أذن الطاغية، وهم يتقرّبون منه، أو يقربهم هو منه، ليكونوا شركاء في جرائمه، وخلاّن ملذاته، وقوّاد شهواته، والمقاسمين له فيما نهي. وهؤلاء الأشخاص برأي "دي لابويسيه" يدربون رئيسهم على القسوة، وإبقاء سيفه مسلطاً على رقبة المجتمع لنشر الشرّ فيه. وينحدر عن هذه الحلقة الضيقة المحيطة بالطاغية جماعة أفسدتها الفئة القريبة من السلطة، ومنها تتسع حلقات الفساد لتشمل جماعات مرتبطة بها ويتم تسليمهم مناصب الدولة، ويهبونهم إمّا حكم الأقاليم، وإمّا التصرّف في الأموال، ومن ثمّ يحمّلونهم متى شاؤوا سيئات الحكم، وفساد الإدارة، بعد أن يكونوا قد لبّوا لهم كل ما يريدونه من أمر الإمارة. إذاً هناك خطوات وراء عبادة الطُغاة، من قبل سلسلة طويلة من الأتباع المستثمرين في الاستبداد، من قبل إسقاط المملكة، وحثالاتها، ولا يعني "دي لابويسيه" هنا حشد من صغار اللصوص، بل يعني أولئك الذين يدفعهم طموح قاتل وحارق وفاسد إلى كسب السلطة، فهم يلتفون حول الطاغية، ويعضدونه لينالوا نصيبهم من الغنيمة، وليصيروا هم أيضاً طغاة مصغرين، في ظلّ الطاغية الكبير.
ويعتبر "دي لابويسيه" مثل اللصوص الصغار والكبار، كمثل فريق يستكشف البلد، وفريق يلاحق المسافرين، فريق يقف في مواقع المراقبة المكشوفة، وفريق يختبئ، وفريق يقتل، وفريق يسلب، ولكنهم وإن تعددت وظائفهم ومراتبهم فيما بينهمِ، وكانوا بعضاً توابع، وبعضاً رؤساء، إلا أنه ما من أحد منهم إلاّ وخرج بكيس سرقة، إن لم يكن بالغنيمة كلها. لقد صرخ إتيان، دي لابويسيه، بوجه الاستبداد، قبل خمسة قرون، ولا زالت دعوته إلى الحرية تحفر عميقاً في التجربة البشرية..
وبرأيه أن الحرية التي بحث عنها الإنسان لا زالت متنازل عنها في أمكنة كثيرة، وهي مزيفة في أماكن أخرى، ولا زال قوله يتردد في كل زمان: إنّ الحيوان لا يتنازل عن حرّيته إلاّ بعد دفاع ضروس" ويعتبر أن الإنسان إنما يفعل ذلك بسبب الحاجة، أو بسبب غياب الوعي. نحن أحرار بالطبيعة، والجدل في حقيقة ما إذا كانت الحرية حقاً طبيعياً، أم لا، لن يكون إلاّ تحصيلاً للحاصل ما دمنا لا نسترّق كائناً، ولا نلحق الأذى به، وبما أنّ الغُبن أكبره الأشياء إلى الطبيعة التي هي مستودع العقل، تبقى الحرية شيئاً طبيعياً، وبهذا نولد أحراراً فقط، وإنما نحن أيضاً مفطورون على محبّة الذود عن الحرية. إذا ما ساورنا شك فيما ندّعي، وأن بلغ فسادنا ما لم نعد نستطيع معه تمييز مصالحنا، ولا مشاعرنا الطبيعية، عندها لم يبق إلّا الإكرام الذي تستحقون، وأن أترك للحيوانات التي لا تمّت إلى المدينية بصلة صعود المنبر لتعلمكم ما هي طبيعتكم، وما وضع وجودكم. ويضيف إتيان: إن استمع البشر إلى الحيوانات لسمعوها تصرخ فيهم: عاشت الحرية.
إن الكثير منها لا يكاد يقع في الأسر إلاّ مات. فكما السمك يترك الحياة حين يترك الماء كذلك هي تترك الضوء، وتأبى العيش بعد فقدان حريتها الطبيعية فلو كانت لها مراتب لجعلت من الحرية عنوان نبالتها. فأما البقيّة من الحيوانات، ومن أكبرها إلى أصغرها، وبحسب "إتيان" لا تستسلم لأسر حين نقتنصها، إلاّ بعد أن تظهر أشدّ المقاومة بالأظافر، والقرون، والمناقير والأقدام، معلنة بذلك مدى إعزازها بما تفقد، وهي تؤثر الضوى على الحياة، وكأنها لا تقبل البقاء لترثي ما خسرت، لا لتنعم بعبوديتها. وفي العودة إلى الطاغية، والزمرة المحيطة به من شبكات الانتفاع، والعبيد الذين يتوسلون خوفاً وطمعاً، والاستحواذ على شيء ما، وكأن للحيازة متسع في ظل الطاغية. ويحمل "إيتيان" الخانعين والخاضعين مسؤولية إعطاء الطاغية القوّة عليهم، وسبلهم كل شيء، دون أن يترك لأحد منهم شيئاً يمكن القول بأنه له. إنهم يرون أنه لا يحبّ إلا الثروات، ولايؤثر إلا الأثرياء. وهم مع هذا يسعون إليه سعيهم إلى الجزّار كي يمثلوا بين يديه ملأى مكنزين، ولكي يستثيروا شجعه. إن الطاغية بنظر "إيتيان" لا يلقى الحب أبداً، ولا هو يعرف الحب. فالصداقة إسم قدسي وجوهر طاهر، إنها لا تعرف لها محلاً إلا بين الأفاضل، ولا تؤخذ من استقامة فهي ضمانته وصدق طوبته وثباته. فلا مكان للصداقة حين القسوة والاستبداد، حيث الخيانة، وحيث الجور والظلم: فالأشرار إذا اجتمعوا تآمروا، ولم يتزاملوا، لا حبّ يسود بينهم بل الخشية، فما هم بأصدقاء، بل هم متواطئون دجّالون.
إن العبيد التُعساء يرون بريق كنوز الطاغية، وينظرون مشاهد بذخه وقد بهرتهم أشعتها، فإذا الضوء يغريهم فيقتربون منه دون أن يروا أنهم إنما يلقون بأنفسهم في اللهب الذي لن يتخلّف عن إهلاكهم. إن الشعب لا يتهم الطاغية أبداً بما يقاسيه، وإنما يُنسبه طواعية إلى من سيطروا عليه: هؤلاء تعرف أسماءهم الشعوب والأمم، ويعرفها العالم قاطبة، حتى الفلاحون والأجراء يعرفونها، ويصبّون عليهم ألف قذيفة وألف شتيمة وألف سُبّة، كل أدعيتهم وأمانيهم إنما تتجه ضدّهم. كل ما يلتحق بهم من البلايا والأوبئة والمجاعات يقع فيه اللوم عليهم، فإن تظاهروا أحياناً بتبجيلهم سبوهم معاً في قلوبهم، ونفروا منهم كما لا ينفرون من الوحوش الكاسرة.
هذا هو الشرف، وهذا هو المجد: ينالون جزاء ما صنعوه تجاه الناس الذين لو ملك كل منهم جزءاً من أجسادهم لما شقي، ولا رأى فيه نصف عزاء عن شقائه، فإن أدركهم الحوت لم يتوان من يجيء بعدهم عن أن يظهر بينهم ألف قلم، يسوّد بمراده أسماء آكلي الشعوب، ويمزّق سمعتهم في ألف كتاب، وحتى عظامهم ذاتها يمرّغها الوحل عقاباً لهم بعد مماتهم على فساد حياتهم. ينهي "إيتيان" بالدعوة إلى التعلّم ولو لمرّة، من خلال السلوك لمسالك الحُسنة، وداعياً إلى أن نرفع أعيننا إلى السماء وبدعوة من كرامتنا، أو من محبة الفضيلة ذاتها، وبدعوة من محبة الله القادر على كل شيء، وتبجيله، ولهو الشاهد الذي لا يغفل عن أفعالنا، والقاضي العادل في أخطائنا.
أما فيما يتعلق بي "إتيان" فإني لا أرى – ولست بالمخدوع ما دام لا شيء أبعد عن الله، وهو الغفور الرحيم من الطغيان – إنه يدخر في الدار الآخرة للطغاة وشركائهم عقاباً من نوع خاص.