انتصر النظام السوري على حمص بعد سنتين ونصف سنة من الحرب المتواصلة، وسنة ونصف سنة من الحصار المُطبق. وبكل صفاقة أعلنت «الممانعة» أن الثورة تخلت عن عاصمتها! خرج المقاتلون من المدينة، وكانوا مئات قليلة. دافعوا طوال هذه المدة عن مدينة هائلة. كانوا سوريين، سوريين فقط، بل إن معظمهم حمصيون. حاصرهم العالم كله، وصمدوا لأكثر من سنتين ونصف سنة. لم تكن المعارضة السورية بينهم حين انسحبوا. كانوا مقاتلين فقط. لا يجيدون لغة المعارضة ولا تسودهم خيباتها، وكانوا يحملون رشاشات صغيرة، ومشوا وسط الدمار الهائل. لم يتكلموا كثيراً، فالمغادرون لحظة مغادرتهم لا يتكلمون عادة. الكل يعرف لماذا غادروا. السبب بسيط إلى حد الفاجعة. لقد جاعوا بعدما أمضوا شهوراً يأكلون أعشاباً بعضها سامّ. هل من عارٍ أوضح من هذا الانتصار؟
لم يدخل جيش النظام حمص لأنه هزم المقاتلين الجائعين، ولا لأنه دمّر المدينة بأكملها فوق رؤوس أهلها. دخلها لأن مئات قليلة من المقاتلين انسحبوا منها. قال النظام إن عدد المنسحبين 980 مقاتلاً. كم يبدو الإعلان عن هذا النصر وقحاً... هي وقاحة تُشبه وقاحة العالم الذي تسبب في دمار حمص وجوع مقاتليها. فمدينة الركام هذه ما كانت لتموت لولا أن العالم كله أراد لها أن تموت. سبق أن انتصر النظام في القصير وفي يبرود، وهناك أيضاً قاتل معه «حزب الله»، لكن «النصر» هناك كان مختلفاً. تواطأ مقاتلون وهانوا، وفاوضت كتائب إسلامية كتائب «حزب الله»، وكان مقاتلون غير سوريين يرابطون وينتظرون لحظة الانسحاب. «جبهة النصرة» لم تشعر بأن يبرود قُدسها، وزهران علوش كان منشغلاً بتخزين المساعدات وحجبها عن السكان في الغوطة. وفيما وصل «حزب الله» إلى البلدتين كفت «النصرة» عن إرسال سيارات قتل الأبرياء في لبنان.
حمص بقيت حتى اللحظة الأخيرة عاصمة الثورة السورية كما كانت لحظة اشتعالها. لم تُصبح يوماً عاصمة المعارضة، ولم تستقبل مقاتلين من غير السوريين. الثورة النقية التي لم تُلوثها جبهات «النصرة» و «داعش» وكتائب علوش و»أحرار الشام». فالمقاتلون المنسحبون لم يكونوا إلا مقاتلين. لا كتائب ولا شارات ولا وحدات. كانوا أفراداً قليلين، وكثيرون منهم كنا حفظنا لهم وجوهاً من أيام التظاهرات. هل يذكر أحد منا التظاهرات في حمص، أيام كانت للمدينة جدران وساحات وأطفال، وأيام كان عبدالباسط الساروط، منشد الثورة، هناك؟ لقد نسي العالم كله ذلك. نسي حلقات الرقص في ساحة الثورة، ومئات الآلاف من أبناء المدينة المبتسمة في حينه.
سنتان ونصف سنة وانقلبت حمص كتلة من الركام. لا أثر لجدار أو لساحة أو لطفل. عدد القتلى من أبناء المدينة يتجاوز عشرين ألفاً ومثله من المفقودين. هل من نصر أوضح من هذا النصر؟ وهل من وقاحة أجلى؟
القصير دُمرت بأكملها ويبرود دُمرت جزئياً أيضاً، لكن للهزيمة فيهما طعماً مختلفاً، هو طعم الهزيمة ذاتها. لم يُهزم السكان هناك، هُزمت الجبهات والكتائب الآتية من خارج سورية، وهُزم مقاتلون لا يجيدون الصمود. كانت حرباً بين أشرار على طرفي الجبهة. الثورة انكفأت إلى مخيمات اللاجئين، وبعض المقاتلين المحليين ماتوا قبل الهزيمة وأثناءها. في حمص الأمر لم يكن على هذا الشكل أبداً. الثورة استمرت تقاتل، والنظام أعلن انتصاره عشرات المرات ولم ينتصر. بقعة الدمار اتسعت ولم ينجُ بناء واحد من القذائف والبراميل. سنتان ونصف سنة من القتال والحصار. من المرجح أن مدينة في العالم كله لم تصمد لهذه الفترة الزمنية. في الحرب العالمية الثانية كانت الجيوش تتقاتل فتنهار المدن وتسقط في يد المتحاربين. وبيروت التي ليست أكبر من حمص، قاتلت الجيش الإسرائيلي لشهرين وسقطت بعدما خرج المقاتلون منها وكان عددهم عشرين ألفاً، ولم يكن الدمار شاملاً. أما حمص المدمرة بالكامل فخرج منها وفق النظام السوري 980 مقاتلاً جائعاً قاتلوا لسنتين ونصف سنة بلا انقطاع. شارك في الحرب عليهم جيش استمر بناؤه نحو خمسين سنة، ووحدات محترفة من خارج سورية، وشارك أيضاً العالم كله في الصمت على مأساتهم.
السلاح الذي كان في أيدي المقاتلين المنسحبين من حمص لا يُشبه السلاح. كان امتداداً لأجسامهم الضعيفة. هو تلك البندقية الضئيلة على ظهر عبدالباسط الساروط حين غادر المدينة. كلنا شاهدها وصمت. قادة المعارضة في فنادقهم في الخارج، وقادة الكتائب المحظية العاجزة عن نجدة حمص في الشمال وفي الشرق. واللاجئون في مخيماتهم حاولوا الاقتراب من شاشات التلفزيونات التي زودهم بها مانحو المساعدات. ليست سوى بندقية عادية قاتلت نحو سنتين ونصف سنة، وها هي تخرج اليوم من المدينة محمولة على يد صاحبها الذي كان منشد الثورة، وكان قبلها نجم المنتخب السوري لكرة القدم.
ليست حكاية انتصار وهزيمة، إنها قصة فناء مدينة. ويبدو أن النظام الخبيث لن يحتفل بدخوله حمص، ذاك أن لفناء المدينة وظيفة مختلفة هذه المرة. فقد أنجز الجيش مهمة جوهرية في حربه على حمص، والعالم كله صامت عن حقيقة أخرى غير حقيقة دمار حمص، صامت عن وظيفة هذا الدمار الهائل. مهمة لم يُنجزها جيش منذ أكثر من نصف قرن. إنها «الترانسفير»، هذا المصطلح الذي ابتكر لوصف ما أقدمت عليه المنظمات الصهيونية خلال ما سمته «حرب التحرير» وما سميناه نحن «النكبة».
«الترانسفير» في حالة حمص جاء أكثر دموية وأثمانه تفوق الأثمان التي دفعها الفلسطينيون حين أقدمت الهاغانا على اقتلاعهم من مدنهم وقراهم. وإذا كان العالم صمت في حينه وتواطأ على الفلسطينيين مدفوعاً بشعور بالذنب وبالتعويض عن جرائمه في حق اليهود، فعوَّض مأساة بمأساة وجريمة بجريمة، فهو في الحالة الحمصية صمت لأنه جبان، وقبل بسبب حسابات أضيق. وغداً حين يصل عبدالباسط الساروط إلى ريف حلب أو ريف إدلب ويلتحق بـ «جبهة النصرة»، علينا أن نتذكر أن الرجل بقي سنتين ونصف سنة مقاتِلاً حمصياً فقط، وقبلها كان منشداً ومغنياً، وأن العالم كله لم يقف إلى جانبه.