لا تتوافر لديّ المعطيات والأرقام الدقيقة وحتى التقريبية لحجم الهجرة المسيحية من الأقطار العربية، وإن كانت الصورة العامة لهذه الهجرة باتت ظاهرة لافتة ومخيفة، كما يوحي السؤال الموجّه من “الملحق”* استناداً إلى الدراسة التي وعد “الملحق” بنشرها لاحقاً شاكرين له سلفاً تزويد المهتمين المعلومات والأرقام الدقيقة لهذه الهجرة. ونشكر أيضاً إثارة هذا الموضوع وتيسير وضعه في التداول وإلقاء الضوء والاهتمام عليه.

بداية، اود أن أذكِّر أن المجتمع العربي نسيج متعدد من الأديان والعناصر والاتنيات والطوائف والأكثريات والأقليات والقوميات. والمسيحيون في هذا المجتمع العربي عدا كونهم ينتمون إلى الأكثرية القومية لكونهم عرباً في مقابل الأقليات القومية الأخرى التي قد يكون بعضها مسلماً غير عربي، فإنهم – أي المسيحيون – جزء من حضارة الإسلام، مؤثر ومتأثر، فاعل ومنفعل في هذه الحضارة وفي الثقافة الإسلامية عموماً.
وحتى تتمكّن أقلية دينية كالمسيحيين في المجتمع العربي أن تكون مؤثرة ومتأثرة إلى حد كبير في الحضارة الإسلامية، فهذا يعني أن تاريخ الاجتماع والاجتماع السياسي العربي الإسلامي كان على درجة متقدمة من الرحابة والاتساع وقبول المختلف والمتعدد. وهو، لو لم يكن كذلك، لم يكن ممكناً أن يستمر وجود المسيحية والمسيحيين وأن يتوسع ويترسّخ، وكذلك الشأن بالنسبة إلى الأقليات الدينية الأخرى، إذ استمرت هذه الأقليات ونمت وحافظت على خصوصياتها، أو على الأقل، فإن هذه الأقليات حين أرادت الحفاظ على خصوصياتها لم يجر تذويبها قهراً في الإسلام. هذا فضلاً عن التمايز الذي يحفظه الإسلام للمسيحية بوصفها ديناً محترماً في منظور العقيدة الدينية الإسلامية لكونهم أتباع واحد من أعظم الأنبياء – في نظر الإسلام – هو عيسى المسيح(ع) من جهة، ولكون الإسلام أساساً لا يقدّم عقيدته على أنها نقض للديانات السماوية، التي سبقته وخصوصاً المسيحية، بل يقدم عقيدته بوصفها امتداداً وتتميماً لما سبقه وخصوصاً المسيحية.
وإذن، فإن طبيعة الإسلام كدين من جهة، وكمجتمع سياسي من جهة أخرى، لا تضيق – ولم تضق في حقب طويلة من التاريخ – بالمسيحيين وحتى بالأقليات الدينية الأخرى. وعليه، فإن الافتراض المنطقي الذي يفرض نفسه في مثل المشهد الحالي لجهة الهجرة المسيحية كظاهرة من ظواهر بروز مشكلات في وجه الأقليات الدينية والثقافية والعرقية في بعض الدول والمجتمعات العربية، هو الافتراض الذي يقول بأن طبيعة الإسلام الأصلية التي كانت تُقرّ هذا التعدد وتحميه في المراحل التاريخية السابقة طرأ عليها تراجع. وهو افتراض لا بدّ من الأخذ به من أجل أن نفهم التبدل الحاصل بين عصور إسلامية سابقة حافظت على التعدد واحتوته، وبين عصورنا المتأخرة التي تبرز فيها أزمات التعدد.
وهنا لا بد من القول ان طبيعة الإسلام في ذاتها، وفي الجانب المتعلق بالنصوص العقيدية والتشريعية، لم تتغيّر وما زالت هي هي، وهذه النصوص هي المرجعية التي كانت تشكّل المصدر الذي قامت عليه مبادئ الاعتراف بالأقليات الدينية في مجتمع الأغلبية الإسلامية. فما هي – إذن – العناصر الطارئة التي تسبّبت بالتراجع المشار إليه؟
إن الأسباب، في اختصار، تكمن، كما نرى، في تراجع العلاقة مع الإسلام نفسه، فلم تعد طبيعة الإسلام الأصيلة هي الموجِّه للاجتماع الديني والسياسي في مجتمعات المسلمين. وها، فإني، وإن كنت أرى أن طبيعة المسيحية الأصيلة أيضاً أصيبت بما أصيب به الإسلام، إلا أنني سأقتصر على ما أصاب علاقتنا بالإسلام، لقد توقفت علاقة المسلمين بالإسلام بوصفه رسالة أي بوصفه رابطة دينية مفتوحة على غيرها من الدوائر والروابط وخصوصاً منها الروابط الدينية الأخرى. وباتت العلاقة مع الإسلام في أبرز وجوهها مقتصرة على أداء بعض الشعائر والطقوس المفرغة – في أكثر الحالات – من مضمونها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فقد أخذت العلاقة مع الإسلام تغدو علاقة أشبه بتلك التي تربط أفراد القبيلة بالإطار القبلي، وتعزز النمط من العلاقة في مناخ التراجع الفادح للحضارة الإسلامية في مفصلين من مفاصل التاريخ الإسلامي، أحدهما في نهاية العصر العباسي وعنوانه الغزو المغولي لبلاد المسلمين، وثانيهما في الغزو الاستعماري الحديث لبلاد المسلمين والانهيار الطبيعي للامبراطوية العثمانية.
في وسعي أن أقول بيقين كامل ان الإسلام تحول بفعل هذا الانهيار الحضاري السياسي من أفق حضاري يتّسع لأوسع صور التعدد في إطار الحضارة الإسلامية إلى خيمة تضيق حتى بالمسلمين أنفسهم. وطبيعي أن يستيقظ في قاطني هذه الخيمة شعور الحذر من الآخر والخوف من مشاركته.

*(ج 1 من نص نشر في ملحق النهار 10 كانون الثاني 1998)

المصدر : موقع جنوبية