شكّل النجف الأشرف ذاكرة تاريخية ودينية لجبل عامل، استطاع من خلالها إدراك الهوية المندمجة ببيئات متجاوزة لحدود الخصوصيات إلى مصادر متفاعلة مع التنوّع الإنساني لإثراء الحياة الثقافية ومنحها أبعاداً جديدة في حدود التفكير الجمعي للأقليات، باعتبار النجف مصدراً من مصادر المعرفة البشرية، ومركزاً مفتوحاً على القضايا العربية، في ظل مناخات متقلّبة سيطرت على واقع العالم العربي بكل أثقالها، وخاصة في مراحل النهوض السياسي والاستعداد لتأسيس الدولة الوطنية بعد إخراج المحتل والمستعمر.
العباءة النجفية في المشهد التاريخي الحديث كانت حيوية العراق إحدى اهتمامات النجفيِّين وكانت الصيغ المتتالية على حكم العراق تشكل دعوات مفتوحة أمام النجف لاستقراء المراحل بطريقة تستدعي التعاطي معها بما بنسجم مع الظروف المتاحة، ووفق المقاربات المنهجية لمنطق وخيارات المرجعية النجفية، وكان العامليون جزءاً أساسياً من نسيج العباءة النجفية، واستكشفت باكراً النهضة العربية بتشكيلاتها كافة، وصولاً إلى المذبحة التاريخية لفلسطين وقيام كيان مغتصب ومتعصّب قومياً، على وقع القتل والدمار. هذه المعاينة العاملية لمرحلة تاريخية مهمة أسهمت في بلورة نخبة من طلاب العلوم الدينية المتصلة بالهموم والتحديات العربية وعلى مستويات مختلفة. البريد النجفي من هنا كان البريد النجفي وبمراسلاته ومكاتباته مصدراً من مصادر التنوير العاملي، باعتبار أن شبكة التواصل ما بين طلاب العلوم الدينية والعلماء العامليّين والمرجعية النجفية تمثل إحدى الحلقات الأساسية لنشأة الفصل الديني والسياسي من كل الأمور المطروحة من قضايا التحرر والاستعمار والكيان الغاصب لفلسطين. ومن هنا وجد العالمُ العامليّ نفسه صاحب هوية عراقية ونجفية تحديداً لأن صياغاته لتأسيسية تشكلت هناك ووفق منظورة الخاص، لذا اكتسب بعده العربي المتجاوز لحدوده الجغرافية وصدور الاهتمامات الداخلية لواقعه الجنوبي. وبالتالي استطاع أن ينقل أينما حلّ تجربته النجفية في نمط العيش إلى دائرة التفكير الديني والسياسي والاجتماعي، وأكسب الجنوب عادات نجفية وسلوكيات واهتمامات معينة إضافة إلى وقوفه الطبيعي إلى جانب الخيار النجفي من المسائل السياسية والفقهية. وبدون تحفظ كان رجل الدين العاملي يفتخر بنجفيته وما زال حتى الآن خرّيجوا النجف يتباهون بانتسابهم إلى مركز ديني أتاح لهم فرص التكوين العقلي والمذاقين الفقهي والأدبي، وهذا ما لا يندرج مع الحوزات الشيعية الأخرى. وهذا الإبكار التاريخي لعلماء جبل عام على النجف، منحهم أيضاً دور المساهمة الأساسية في الحياة السياسية للعراق ولبنان من خلال انخراطهم المباشر في العمل التحرّري تحت عباءة المرجعية النجفية. وهنا يمكن استحضار المرحلة التي استدفع فيها المرجع الشهيد السيد محمد باقر الصدر الأمور السياسية إلى حد إظهار واقع جديد للمرجعية النجفية ونقلها من خط ردات الفعل، إلى خط الفعل المباشر، من خلال تصديه الفعلي لواقع العراق والعمل على إخراجه من صيغ سلطوية غير دينية إلى صيغة دينية. وتأسس على ذلك حزب الدعوة الذي استفاق على مسؤولية تاريخية أمام أحداث جسام وواقع عراقي كبير، يحتاج إلى جهد مضن لإمكانية التأهيل الثقافي والسياسي، لبيئات عراقية كانت منكمشة أمام مدّين كبيرين: هما المدّ الماركسي والمدّ القومي العربي إضافة إلى مرجعيات دينية كلاسيكية تستدعي الانصراف إلى الذات دون الاقتراب من باب التهلكة.
عباءة موسى الصدر وهذا الواقع العراقي تربى فيه العامليون ونقلوا التجربة معهم إلى لبنان ليأسسوا فرعاً للدعوة واستطاع كل من الفقيهين السيد محمد حسين فضل الله والشيخ محمد مهدي شمس الدين من دفع الدعوة إلى الأمام والمساهمة في تشكيل الإطار المناسب للحزب. وهنا تمّ تأسيس المرحلة الثانية من مراحل التواصل النجفي العاملي، وهي مرحلة سياسية بامتياز بحيث فتحت باب العلاقة السياسية المباشرة مع المرجعية النجفية وتكوّنت الحزبية الشيعية اللبنانية المرتبطة بالدعوة الدينية، إلا أن مجيء الإمام السيد موسى الصدر إلى لبنان والعمل تحت عباءته ومن ثم انتصار الثورة الإيرانية وتمدد ولاية الفقيه حدثان شكلا مرحلة مختلفة عما بذله العامليون الدعواتيون، الأمر الذي أدّى بجزء معتبر منهم إلى الانضواء إما تحت عباءة السيد موسى أو تحت عباءة السيد الخميني لكن السيد فضل الله ذهب باتجاه عباءته المرجعية فحصّلها رغم واجهته من صعاب جسام.
وأمام المستجدّات استفاق العامليون على بعد تاريخي آخر سيطر على هويتهم المعاصرة وبات النجف مجرد ذاكرة يحركها بين الفينة والفينة هوًى قديم. ولكن بعد سقوط صدام حسين وتحرير العراق من الاستبداد ثمة دعوة مفتوحة كي يعود النجف إلى موقعه الريادي باعتباره الصورة الأقرب للرؤية العاملية ومن زوايا متعددة. وهذا يتطلب مرونة عراقية وجهوداً من قبل المعنيين من تجاوز حدّة الخلافات السلطوية والاتفاق سياسياً تحت برنامج تنموي يتيح تحرراً للمشكلات المتضمنة. وهذا ما ينعكس على المجموعات الشيعية، والعاملية منها، والتي تحتاج إلى استكمال ما بدأه العامليون السابقون من علاقة مع النجف أثرت تاريخ البيئتين ومن حتهما تواصلاً كاملاً جعل من الهويتين اللبنانية والعراقية هوية ثقافية مفتوحة على الهويات الأخرى