ثمّة آفة خطيرة تفتك بمجتمعاتنا الإسلامية وتزيدها تمزيقاً وتعمّق شقة الخلاف بين طوائفها وأبنائها وهي محاولة كل فرقة أو جماعة احتكار الشرعية والهداية والاستقامة لنفسها وسلبها عن الآخرين واتهامهم بالفسق والخروج عن جادة الشريعة، وهذا مظهر من مظاهر تكفير الآخر، وممّا يُؤسَف له أنّه يحصل التهاون إزاءه، وتزيده الأهواء ضراوة، فتضيع المقاييس الأخلاقية والشرعية ويغدو الآخر سوداوياً قائماً، ويحول الشنآن دون أن تُرى له حسنة واحدة، ولعلّ أجلى تعبيرات هذه الآفة هو في هذا التسرّع في تفسيق الآخر وتتبع عثراته وزلّاته، وقد يبرّر البعض لنفسه ذلك ويُسبغ على تصرّفه لبوساً شرعياً.
وهذا الأمر يحصل في الدائرة المذهبية الواحدة، أمّا لو خرجنا إلى دائرة المذاهب المتعدّدة، فضلاً عن الأديان المتنوّعة، فسنرى أنّ المناعة الأخلاقية تتلاشى بصورة ملحوظة وتسقط الكثير من المحرّمات والخطوط الحمر ويُستباح الآخر ولا يبقى له حرمة، ويعزّز ذلك الفتاوى التكفيرية التي تنطلق من هنا وهناك، فتنزع الحرمة عن أتباع المذهب الآخر وتُشَرْعِنْ غِيْبَتهم ولَعْنهم وسبّهم.. ولولا بعض المحاذير أو الاعتبارات لأباحت دماءهم وأعراضهم وأموالهم، بل إنّ البعض تجرأ وأفتى بذلك كلّه!
إنّ رَمْيَ الآخر بالفسق والخروج عن خطِّ العدالة والاستقامة معناه:
1- الانتقاص من شخصيّته الإيمانية، ولذا لا تصحّ إمامته للمصلّين ويُعتبر فاعلاً للمنكر.
2- الانتقاص من شخصيّته القانونية، ولذا لا تُقبل شهادته.
3- الانتقاص من كرامته الإنسانية، ولذا تسقط حرمته وتُجوّز غيبته، لأنّ "مَنْ ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له"[1].
ولذا يكون من الملحّ جداً تحديد معنى الفسق ومعرفة ضوابطه، وهل أنّ مجرد الاختلاف المذهبي يُخرج الإنسان من خطِّ العدالة؟
أسباب ونتائج
وإذا كان فقدان الوازع الديني والأخلاقي- لدى الكثيرين– يقف وراء التصرّفات السلوكية الشائنة تجاه الآخر، فكيف نفسّر جنوح الفقيه إلى التفكير التكفيري التفسيقي؟
قد يكون لعلم الكلام المبتني على منطق الفرقة الناجية دورٌ في التأسيس لهذا المنحى التكفيري، يُضاف إليه العامل السياسي والإرث التاريخي الثقيل والمليء بالمرارات والمُثْخن بالجراح والمشحون بالظلم والقهر واستباحة الآخر، فهذا كلّه قد أرخى بظلاله وساهم في تكوين أرضية نفسية لدى الفقيه اختزنت في اللاوعي وهي بدورها أسّست لما يمكن تسميته بفقه الشقاق ووجّهت ذهن الفقيه لا شعورياً في هذا الاتجاه بدل أن يتّجه إلى بناء فقه وفاقي يقرّب الأُمّة من بعضها البعض وينزع فتائل التفجير فيما بينها ويفكّك الألغام المنتشرة بطريقة عشوائية في تراثنا.
والنتيجة الطبيعية التي تمخّضت عن ذلك هو ما نشهده من تمزّق الأُمّة أشلاءً متناثرة وما نلاحظه من واقع مأزوم ومؤلم ملؤه الأحقاد والضغائن المتبادلة وما نشهده من استباحة المسلم لعرض أخيه المسلم، هذا إن لم يستبح دمه وماله.
شرعنة التفسيق
ولو أنّ المسألة اقتصرت على مجرد جرأة على انتهاك الآخر من موقع الانفعال لهان الأمر وسهل علاجه، لأنّ من يهتك حرمة الآخر- والحال هذه- يعرف في قرارة نفسه أنّه مخطئ ويرتكب حراماً، وقد يكون عنده قابلية الارتداع عن المنكر من خلال النصيحة والتوجيه، بيد أنّ القضية تجاوزت ذلك بكثير وأضحى المسلم يرى في غيبة المسلم الآخر عملاً مشروعاً ومحبّذاً لا محرّماً، وهنا يغدو المرض أكثر خطورة وعلاجه أشدّ صعوبة، لأنّ إقناع المسلم بترك الحرام أهون من إقناعه بترك ما هو حلال بنظره، تماماً كما أنّ إقناع الشخص بترك ما يضرّه أسهل بكثير من إقناعه بترك ما يعتقده نافعاً له أو غير مضرّ به ولو كان في الواقع مضراً، ولذا يُنقل عن البعض أنّه قال: أنا أُسامح كلّ مَن يغتابني إلاّ المشايخ والمعمّمين، ولما سُئِل عن السبب؟ قال: لأنّ الإنسان العادي يغتابني وهو يعرف أنّه لا تحلّ له الغيبة، أي إنّ لي نوعاً من الحرمة بنظره، بينما المتفقّه لا يغتابني إلاّ بعد أن يُخرجني عن مقتضى العدالة والتديّن، لتصبح غِيْبَتي مشروعة بنظره!
هذا هو واقعنا المؤلم ولا يجوز أن نغضّ الطَّرْف عنه أو نعتّم عليه إذا أردنا إصلاحه، والإصلاح هنا لا يكون بمجرّد مواعظ نُطْلِقها في الهواء الطَّلْق، بل بعملٍ فكريّ تأصيلي يعيد النظر- بداية- في ثقافة التكفير والتفسيق والتضليل، ويعاود دراسة الفتاوى التي تنزع الحرمة عن الآخر وتبيح غيبته ولَعْنه وسبّه، لأنّ هذه الفتاوى في أحسن التقادير هي حصيلة اجتهادية لفكر بشريّ ساقته بيئته الثقافية والاجتماعية والسياسية إلى تبنّي هذه الفتاوى.
وإذا كان المقام لا يسع للتفصيل الاجتهادي في هذا الأمر، فنكتفي بالإشارة الإجمالية إليه، لأنّ ما لا يُدرك كلُّه لا يُترك كلُّه.
الخلاف في الأصول الفروع
وبالعودة الى السؤال المتقدّم: متى يجوز رمي الشخص بالفسق؟ نقول: إنّ المخالفة التي يرتكبها المرء تارة تكون في الفروع وأخرى في الأصول.
أمّا المخالفة على مستوى الفروع وهي المعصية فليس ثمّة خلاف أو إشكال في أنّ العصيان إنَّما يُوجِب الخروج عن خط العدالة فيما لو تعمَّد المكلّف ارتكاب ما حرّم الله أو ترك ما فرضه على العباد، وأمّا لو ارتكبها خطأً أو جهلاً فلا يخرج بذلك عن خطّ الاستقامة، ثم إنّه وعلى فرض التعمّد فإنَّ القضية الأساس هي معرفة ما هو الحرام؟ وما هو الواجب؟ فما اتُّفِقَ على حرمته أو وجوبه لقيام الدليل على ذلك تكون مخالفته موجبة للفسق، وأمّا القضايا الخلافيّة الاجتهادية فلا تضرّ المخالفة فيها ولا تُخْرج عن العدالة، وقد صرّح بذلك جملة من الفقهاء[2].
وعلى سبيل المثال: لو أنّ المكلف حلق لحيته اعتماداً على رأي مَنْ يُجوِّز حَلْقها من الفقهاء، فلا يجوز للآخرين رميه بالفسق حتى لو كان رأيهم أو رأي مرجعهم هو حرمة حلق اللحية، وبالتالي فلا يحقّ لهم نهيُه عن حلقها، لأنّه لا يرتكب حراماً بحلقها ليُنهى عن المنكر..
ومثال آخر: لو أنّ مسلماً اتّجر بأوراق اليانصيب بيعاً أو شراءً استناداً إلى رأي بعض الفقهاء الذين يجيزون هذه التجارة ولا يرونها مندرجة في مفهوم القمار، فلا يجوز للآخرين رَميْه بالفسق والاتّجار بالحرام، ولا نهيه عن ذلك، لأنّه يستند إلى رأيٍ فقهيّ اجتهاديّ يجيز له ذلك.
ويظهر من بعض الفقهاء أنّ الفسق إنّما يتحقّق بمخالفة الإجماع، فالقضايا الإجماعية لا تجوز مخالفتها، وكلّ مَنْ يخالفها يُعتبر فاسقاً، أمّا المسائل الخلافية فلا تُوجب مخالفتها فسقاً وخروجاً عن العدالة.
ولكن نلاحظ على ذلك بأنّ الفسق يتحقق بمخالفة ما قامت الحجّة الشرعية عليه ولو لم يكن الأمر إجماعياً، وأمّا مخالفة ما لم تقم عليه الحجة الواضحة والتامة فلا تكون مضرّة بالعدالة وإن كان إجماعياً، لأنّ الإجماع لا حجيّة له في حدّ ذاته ما لم يكشف عن دليل شرعيّ من الكتاب أو السنّة، قال الشهيد الثاني تعليقاً على قول صاحب الشرايع: "ولا تُرَدّ شهادة المخالف من معتقدي الحقّ إذا لم يخالف الإجماع"[3]: "وينبغي أن يُراد بالإجماع الذي تقدح مخالفته فيها إجماع المسلمين قاطبة، أو إجماع الإمامية مع العلم بدخول قول المعصوم في جملة قولهم، لأنّ حجية الإجماع في قوله _ أي المعصوم- على أصولهم لا مطلق إجماعهم، إذ لا عبرة بقول غير المعصوم منهم مطلقاً، وما لم يعلم دخول قوله في قولهم فلا عِبْرة بقولهم وإنْ كثر القائل، وقد تمادى بعضهم فسمّى ذلك إجماعاً.."[4].
اختلاف المذهب لا يُخرج عن العدالة
وأمّا على مستوى الأصول العقائدية، فإن كان الخلاف فيها مرتبطاً ببعض التفاصيل الاعتقادية من موقع اجتهادي فهو لا يضرّ بالعدالة ولا يُوجِب فسقاً أو ضلالاً، كما سيأتي في بحث قضيّة التضليل، وإنّما الكلام في الأركان والأصول الاعتقادية كما هو الحال في قضيّتَي الإمامة والعدل، فهل أنّ التشكيك بهما أو إنكارهما اجتهاداً لا جحوداً يوجب الفسق؟ وبعبارة أخرى: هل أنّ اختلاف المذهب يوجب الخروج عن خطّ الاستقامة والعدالة أم لا؟
يمكننا الإجابة بالنفي- خلافاً للمشهور والسائد- ليس فقط لأنّ روح الشريعة ومقاصدها ومنطق الأخلاق ومكارمها يأبيان عن تجزئة الحرمات والكرامات، بل لأنّ النصوص الدينية المتضافرة أكدت على حرمة كل مسلم في نفسه وعرضه وماله، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12] وفي الحديث عن رسول الله (ص): "سُباب المؤمن فسوق وقتاله كفر وأكْل لحمه معصية وحرمة ماله كحرمة دمه"[5].
وعن الإمام الصادق (ع): "من عامل الناس فلم يظلمهم وحدّثهم فلم يكذبهم ووعدهم فلم يخلفهم فهو ممّن كملت مروته وظهرت عدالته"[6].
ولا بدّ أن يعلم أنّ المؤمن في المصطلح القرآني وكذلك في كلام رسول الله (ص) لا يختصّ بالإمامي الشيعي ولا بالسُّنّي، بل هو شامل لكلِّ مَنْ آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، ويذهب الفقيه الكبير السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله إلى أنّ المؤمن يعمّ حتى الناصبي والمغالي[7].
وربّما يقولنّ قائل: بأنّ مَنْ لا يلتزم بولاية أهل البيت (ع) ليس عادلاً بل هو فاسق، لأنّ ذلك من أكبر الكبائر.
ويمكن الجواب عليه بما ذكره الشيخ الفقيه زين الدين الجبعي المعروف بالشهيد الثاني (رحمه الله) حيث قال: "وفيه نظر: لأنّ الفسق إنّما يتحقّق بفعل المعصية المخصوصة مع العلم بكونها معصية، أمّا مع عدمه، بل مع اعتقاد أنّها طاعة، بل من أمهات الطاعات فلا، والأمر في المخالف للحقّ كذلك، لأنّه لا يعتقد المعصية، بل يزعم أنّ اعتقاده من أهم الطاعات"، ويضيف (رحمه الله) بأنّ المخالف لا يصدق عليه عنوان الظلم "وإنّما يتّفق ذلك ممّن يعاند الحقّ مع علمه به وهذا لا يكاد يتّفق وإن توهمه من لا علم له بالحال"، إلى أن يقول: "والحقّ أنّ العدالة تتحقّق في جميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها بحسب اعتقادهم ويحتاج في إخراج بعض الأفراد إلى الدليل.."[8].
وقد اعترض بعض العلماء على كلام الشهيد المذكور باعتراضَيْن:
الأول: "إنّ المخالف في الاعتقاد لما قصّر في الاجتهاد يكون فاسقاً فلا يقبل قوله في الشهادات وإن كان صادقاً في نفسه ومتحرّزاً في دينه عن الكذب"[9].
ويُلاحَظ عليه: بأنّه ليس كلّ مخالف في الاعتقاد مقصِّراً في الاجتهاد، بل أكثرهم جازمون بصحة معتقداتهم وما هم عليه من المذاهب ولا يحتملون وجود الحقيقة في مكان أو مذهب آخر، كما أسلفنا في بحوث سابقة.
الثاني: "في تعريفه- يقصد الشهيد- الفسق بما عرّفه به نظر، لعدم اختصاصه بمعصية دون معصية وعدم اعتبار العلم بكونها معصية، بل الجاهل بمعصية إذا ارتكبها كان فاسقاً، بل نفس جهله بكونها معصية فسق آخر، لتقصيره إما في الاجتهاد أو التقليد الواجب عليه وتركه فعل ما وجب عليه من معرفة أحكام الدين ودراسة شرائع سيد المرسلين، فقد تقرّر في الأصول: "إنّ علم المكلّف بالأحكام ليس شرطاً في تكليفه.."[10].
ويُلاحَظ عليه:
أولاً: إنّ لازم ما ذكره – من عدم اشتراط الفسق بالعلم بكون ما يرتكبه معصية- أن يُحكم بفسق الجاهل في الشُّبهات الموضوعية أيضاً كمن يشرب الخمر معتقداً أنّه ماء، وهذا ما لا يمكن الالتزام به لفقيه من الفقهاء، كيف والفقيه نفسه معرّض لذلك فضلاً عن غيره.
ثانياً: إنّ حكمه بفسق الجاهل لتقصيره في الاجتهاد أو التقليد مردود بما عرفته من أنّه ليس كلّ جاهل مقصِّراً، فالكثير من الجهال هم قاصرون، والقاصر الجاهل معذور كما تقدّم، ومعه لا يمكن الحكم بفسقه.
ثالثاً: إنّ اشتراك الأحكام بين العالِمين والجاهلين بها لا يقتضي الحكم بفسق مَنْ خالفها جاهلاً جهلاً قصورياً، لأنّ الجهل يرفع المؤاخذة بمقتضى قوله (ص): "رفع عن أمّتي ما لا يعلمون"[11] وبارتفاع المؤاخذة ينتفي العصيان، وبهذا يفترق الفسق عن الضلال والكفر، حيث إنّ الأخيرَيْن لا يُتقوّمان بالعلم، بخلافه، فمَنْ أنكر وجود الله تعالى أو وحدانيّته فهو كافر حتى لو كان معذوراً في إنكاره، وإن كان يصعب علينا إيجاد عذر لمنكر وجود الحقّ تعالى بعد كون الفطرة الصافية شاهدة بوجوده، وكذا العقل، وأمّا مَن ارتكب المعصية جهلاً فلا يُحكم بفسقه.
وخلاصة الكلام: إنّنا لا نريد القول: إنّ كلّ مسلم عادل، فهذا خلاف ما هو مُشاهَد بالعيان، وإنّما نريد القول: إنّ العدالة ليست حِكْراً على أتباع مذهب بعينه، وإنّما هي تابعة لتوفّر ضوابطها وشروطها، بل قد عرفت أنّ الشهيد الثاني (رحمه الله) يختار تعميم العدالة لجميع أهل الملل مع قيامهم بمقتضاها وفق اعتقادهم، والحقّ أنّ هذا رأي فقهي متقدّم جداً ويكشف عن نزعة إنسانية مبدعة في فكر الشهيد وفقاهته، وسيوافينا شواهد أخرى على هذا المعنى من فقه الشهيد الثاني.
غيبة المسلم حرام
وكما أنّه لا دليل على فسق المخالف في الاعتقاد، كذلك لا دليل على جواز غيبته لأنّ الآية الكريمة:{وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ}[الحجرات: 12] عامة لكلّ مسلم- كالكثير من الروايات- ولا مخصّص لها، والأخوّة في الآية يُراد بها الأخوّة الإيمانية وهي لا تختصّ بطائفة بعينها- كما أسلفنا-، ولذا استشكل جمع من الفقهاء في غيبة المخالف في المعتقد، وعلى رأسهم الفقيه المحقق الأردبيلي[12]، واعترف بعض المعاصرين بأنّه لا وجود لدليل لفظي يدلّ على الجواز، ولذا احتاط بالمنع رغم إقراره بجريان السيرة على الفعل[13]، ولكن امتداد هذه السيرة إلى عصر المعصوم وعدم نشوئها من فتاوى الفقهاء غير واضح، وقد كان الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء واضحاً في رأيه عندما رأى أنّ كلّ مَن اعتقد بالأركان الأربعة (التوحيد، النبوّة، المعاد، وأركان الإسلام، كالصلاة والصوم..) فهو مسلم ومؤمن بالمعنى الأعم تترتّب عليه جميع أحكام الإسلام من حرمة دمه وماله وعرضه ووجوب حِفْظه وحرمة غيبته وغير ذلك"[14].
وإذا كان الأمر كذلك في المخالف عقائدياً فهو أشدّ وضوحاً في المخالف فرعياً، فالاختلاف الفقهي لا يُضرّ بالعدالة لأنّ "الفروع مسائل اجتهادية" غالباً كما يذكر المحقّق الأردبيلي، ولذا لا يجوز أن يُفَسِّقَ بعض المؤمنين بعضاً، لمجرّد اختلاف التقليد في المسائل الفرعية كحلق اللحية واللعب بالشطرنج ونحو ذلك.
خطوة متقدّمة
ما قدّمناه من حديث عن مبدأ الأخوّة الجامعة لكلِّ أتباع المذاهب الإسلامية، وكذلك مبدأ العدالة الشاملة لكلِّ مسلم مستقيم على جادة الشريعة مع غضِّ النظر عن مذهبه، حرصنا أن نستشهد عليه بأقوال بعض فقهاء الشيعة المتقدّمين والمتأخّرين أملاً في إيجاد اختراق في الجدار المتصلّب الذي يسود بعض الأوساط الفقهية الشيعية تجاه المسلم الآخر بما يصدّع ويشرذم مبدأَيْ العدالة والأخوّة المشار إليهما، دون أن يعني ذلك أنّ الصورة لدى الطرف الآخر أحسن حالاً أو أكثر إشراقاً، بل إنّ النظرة السائدة لدى بعض الفرق السنّية السَّلفية عن الشيعة تصل إلى حدِّ التكفير والإخراج عن الدين، بيد أنّ الذي يهوّن الخطب أنّ ثمة مدرسة أخرى معتدلة تركّز على الجوامع أكثر من تركيزها على الفوارق، وترى أنّ الحرمات لا تقبل التجزئة، وترفض التكفير والتفسيق، يقول الشيخ محمد الغزالي (رحمه الله) فيما يرتبط بالخلاف الشيعي السنّي: "إذا كان الرجل يؤمن معي بكتاب الله وسُنّة رسول الله (ص) ويصلّي الخُمُس كلّ يوم ويصوم رمضان كلّ عام ويحجّ البيت إن استطاع إليه سبيلاً فكيف أستبيح تكفيره، لأنّه أخطأ الفهم في بعض القضايا أو أخطأ الوزن لبعض الرجال"[15].
وقد خطا شيخ الأزهر الأسبق الشيخ محمود شلتوت (رحمه الله) خطوة متقدّمة على هذا الصعيد لم يسبقه إليها أحد، عندما أفتى بجواز التعبّد بالمذهب الجعفري، معتبراً أنّ حاله حال سائر المذاهب الأربعة ويجري على أتباعه ما يجري على أتباع المذاهب الأخرى.
من كتاب العقل التكفيري قراءة في المنهج الاقصائي
28/4/2014
[1]كنز العمال ج3 ص595، ومستدرك الوسائل ج9 ص129.
[2]قواعد الأحكام ج3 ص494، البيان ص131.
[3]شرائع الإسلام ج4 ص912.
[4]مسالك الأفهام ج4 ص172- 173.
[5]الكافي ج2 ص359، الحديث مرويّ في الجزء الأول منه، وهو قوله (ص): "سباب المؤمن فسوق وقتاله كفر" في مسند أحمد ج1 ص439.
[6] الكافي ج2 ص239.
[7]راجع مصباح الفقاهة ج5 ص92، 96.
[8] مسالك الأفهام ج14 ص160.
[9]الرسائل الاعتقادية تأليف: المازندراني الخاجوئي، محمد إسماعيل (ت: 1173هـ) تحقيق السيد مهدي الرجائي، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، قم 1411هـ، ج2 ص251.
[10]الرسائل الاعتقادية ج2 ص251.
[11] الخصال للصدوق ص417.
[12]مجمع الفائدة والبرهان ج5 ص178، زبدة البيان ص417.
[13] حدود الشريعة – المحرّمات ج2 ص77.
[14] أصل الشيعة وأصولها ص129.
[15] دفاع عن العقيدة والشريعة ضد مطاعن المستشرقين: ص221.