أسهمت التعاونيات "والمولات" في خلق أسواق تنامت فيها أحجام الرأسمال، منحت الاقتصاد الوطني دفعاً في عجلة ميتة، نتيجة لتهاوي العملية الاقتصادية، إلى منحدرات أصبح من الصعب إعادة هيكلتها، وفق شروط تعيد إحياء الورشة الاقتصادية، واستنهاض لبنان من كبوات الدين العام، ومن ثم تحريك ركوده المُسن والمُزمن لخلق فرص جديدة وجيدة تعيد البلد إلى صورته الاقتصادية القديمة.
لا أعالج هنا موضوعاً اقتصادياً مفتوحاً على الفسادين المالي والإداري، بالقدر الذي أحاول هنا استقراء الاقتصاد التعاوني على ضوء التواصل الاجتماعي، أي في تأثيرات النسق الاقتصادي على البنية الاجتماعية، وخاصة في ما يتصل بالصلات الاجتماعية والمواطنية، باعتبارها مؤسسة العمل المشترك داخل الإطار السياسي. برزت التعاونيات والاستهلاكيات في المُدن كمستوعب لاحتياجات متعددة، يحتاجها المواطنون لتوفير وتأمين مستلزماتهم من مآكل ومشارب وملابس وخدمات يومية، بعد أنّ تأخرت الدكاكين عن تأمين ذلك لصغر أحجامها، وضعف رأسمالها الاستثماري، وعدم قدراتها على مواكبة التطورات الهائلة للشركات الرأسمالية. ماتت الدكاكين في المُدن الرئيسية، وسقطت مكانتها في الوسط الاجتماعي. وبدأت التعاونيات والاستهلاكيات تنشط بشكل سريع، أتاح في البداية حضوراً أنعش من تمركز رأس المال، الذي اندفع بدوره نحو المُضي قُدماً باتجاه المسوق المكتمل الاحتياجات. وكانت المولات الضخمة مساحة مفتوحة على كل الخدمات والمستلزمات والاحتياجات الرئيسية والأساسية والكمالية للمواطنين، وهنا انتكست أكثر وتأثرت الأحجام الاستهلاكية المتواضعة، امام سوق من الاسمنت المفتوح على البضائع كافة.
وبدأ نمط آخر من الاستهلاك، ودائرة جديدة من الأنماط الاجتماعية، والمؤثرة على شبكات المواطنين من ناحية تنمية المشاريع المحلية، وازدهار أسواق الأحياء بهدف الاستمرار في مجتمع تعاوني يعزّز بعضه البعض، في ظل إهمال الدولة المسؤولة عن إدارة المشاريع الاستثمارية، بطريقة تعزّز وتحمي الرأسمال الصغير من التآكل، وتبقى المجتمع عن درجة عالية من التعاون في ما بينه، لخلق ودّ ومودة وصلات تعزّز من الروابط الاجتماعية، ولا تفككها كما فعلت الرساميل الكبيرة. باستثناء الضواحي الضيّقة وزواريب الفقر والبؤس والمتاخمة والملاصقة للمدن، ما زالت الدكاكين الصغيرة تعمل بشكل يومي داخل هذه الأحزمة وبالطريقة التقليدية، واعتماد الديون سياسية تجارية العائلات، لا تستطيع تسديد فواتيرها المتواضعة بشكل يومي. إذا ما أخذنا الجنوب نموذجاً للمعالجة التي نحن بصددها، يبدو أن الأرياف تعمل مع الدكاكين وفق التعاطي اليومي، أي الاعتماد عليها في الخدمات البسيطة من خُبز وملح ولحم وبقالة وفواكه وخضار، وأكثر الزبائن من الطبقة الفقيرة، في حين تعتمد الطبقة المتوسطة، أو ما تبقى منها على التعاونيات في المُدن بشراء شهري، يؤمن احتياجات البيت لثلاثين يوماً، حتى أن الخبز يتم شراؤه لمدة أسبوع ويوضع في الثلاجات. ربما يكون عنصر العمل بالنسبة للأسرة دافعاً إلى توفير احتياجاتهم في يوم تعاوني لتغطية أيام الشهر. لأن أوقاتهم وظروفهم لا تسمح لهم باعتماد الدّكان المحلي، ولكن ثمة شعور غالب عن الكثيرين من المواطنين، بأنهم يوفرون مالاً، عند شرائهم من التعاونيات لأنها أرخص بكثير من أسعار الدكاكين، دون إجراء حسابات دقيقة لتأكيد صحة هذا الشعور. إذاً تعتمد الدكاكين في القرى على الطبقة الفقيرة، في حين تذهب الطبقة الوسطى إلى المُدن في صور والنبطية وصيدا، لتأمين ضروراتها وكمالياتها.
كما أن أهل المُدن أنفسهم يمارسون نوعاً خاصاً من الشراء المحلي. ففقراء المُدن ومتوسطو الدخل يتوزعون على الدكاكين المحلية في المدينة وعلى الاستهلاكيات الكبيرة، في حين أنّ أغنياء المُدن يسلكون اتجاهات مغايرة، فهم لا يتبضعون من السوق المحلي سواء أكان تعاونية أو مولاً"، ويولون وجوههم شطر المُدن الأخرى. أي أن الميسورين من أهل مدينة النبطية لا يُغريهم كثيراً السوق المحلي، فهم يذهبون إلى مدينة صيدا لتأمين احتياجاتهم، كما أنّ الميسورين الصيداويين يتركون الأسواق الصيداوية، ويؤمِون أسواق بيروت، وكذلك حال اهل صور، الذين تدفعهم إمكانيتهم المالية إلى شراء احتياجاتهم من العاصمة. هذا التعاطي للجنوبيّين مع أسواقهم خلق حالات من اليأس الاقتصادي.
إذ أن هناك هروباً للرساميل الضخمة من البيئة الاستهلاكية، الأمر الذي لا ينتفع منه أصحاب المحلات والمؤسسات التجارية، ولأن ما يتم استهلاكه في الجنوب نسبة متواضعة، وبالكاد يلبي مصالح تجارية متنوعة ومتعددة، تعتمد في رزقها على الزبون الجنوبي المقيم في القرى والأرياف والمُدن. من هنا نسمع باستمرار "نقّ" أصحاب المحلات والمؤسسات التجارية، من أسواقهم الضعيفة. طبعاً هناك وضع عام في البلد، أدّى إلى إفلاس مؤسسات وشركات نتيجة لاعتبارات أمنية ومؤشرات اقتصادية، إلاّ أننا نساوق الموضوع ونقاربه من زاوية اقتصادية متعافية، نلحظ فيها مشاكل حصلت من المؤسسات مؤسسات مديونية لصالح التجار أو البنوك. في العودة إلى الأواصر الاجتماعية، نكتشف أن الأسواق قد زادت من تفكك الوحدة الاجتماعية لأن الوحدة الاجتماعية مرتبطة بالمصالح الاقتصادية، فإذا ما كانت المصالح غير متوفرة داخل البيئة الواحدة فكيف يمكن الإبقاء على اللُّحمة الاجتماعية. إن الورش في القرى إذا ما كانت تعتمد على فنّيّي القرية، من معلمين وعمال بناء، وسمكريين وورّاقين ودهّانين وبلاطين فكيف سيكون حال العلاقة ما بين أصحاب الورش والفنيّين؟ وانعكاس ذلك أسَرّياً على الشبكة الاجتماعية داخل القرية. لهذا ندرك سرّ الابتعاد الحاصل داخل الشبكات العائلية والقرية نتيجة لغياب المصالح المشتركة، من هنا نصف الوضع القائم والغربة التي يعاني منها اللبنانيون، تحكم الحالة المادية والحياة المادية بالحياة الاجتماعية. حتى الآن يبدو الوضع مقيّداً نتيجة لسببين رئيسيين متصلين بالبعدين الديمغرافي والطائفي الذين أسسا لإصطفاف مبني على عصبيات مناطقية طوائفية، وغير مبني على أسس وشروط مصلحية تجعل المجتمعات موحدة وفق مسوغات أرقى مستوى من الفراغات العصبوية التي لا تؤدي إلاّ إلى تدمير الذات قبل الآخر. إن التكتلات الاقتصادية تنتج باستمرار، إنماطاً اجتماعية أكثر وعياً، لأنها تُدرك أهمية الشراكة من الرغيف إلى الكتاب، وهذا ما ينعكس بدوره على السلوك الاجتماعي، والتصرّف السياسي، بطريقة تنتج وعياً ومسؤولية تبني ولا تُدمر تسهم في السلام بدلاً من أن تسقط في مشاريع الحروب. وإذا ما استقرأنا الكثير من دعوات العنف وفي وسائله وأشكاله كافة، يتبين لنا أنه مظهر من مظاهر النمط السلوكي المتأسس على أنماط اجتماعية وفّرتها وسائل الاقتصاد ومنظومات الرَّيع والخدمات.
إن الأب الذي لا يوزع ملكيته بطريقة متساوية بين أفراد الأسرة، فهذا الأمر من شأنه أن يضرب استقرار الأسرة، وأن ينشئ عداوات بين الأخوة والأخوات، وأن تفسر الخلية الأولى والتحية في المجتمع الإنساني. كذلك حال المؤسسات الذكورية في العالم العربي من المواطن إلى المسؤول. إذا لم يكن هناك مصالح مشتركة ومتساوية يسقط العقد الاجتماعي وتتفكك إلى الأسرة والدولة معاً.