لا توجد صندوقة ضمير في لبنان يمكن أن نضع فيها شكاوى مُكدّسة في بطوننا , ولا أعرف جهة من الجهات السياسية والرسمية تستمع لمعاناة المواطنين , فلا الأحزاب ولا المؤسسات حاضرة للاستماع الى أزماتنا المفتوحة على كلّ شيء من البؤس الاجتماعي الى الأمن السياسي . لهذا لن أخاطب سراب الطبقة السياسية لأنها مشغولة في محاصصة الدولة ولن أعاتب مسؤولاً من المسؤولين الفاشلين في اداراتهم ولكن شكاوي اليوم الى المواطن نفسه في لبنان رغم معرفتي المُسبقة بانه ابن هذه الطبقة السياسية وقدّ تربى في طوائفها وهو في حالات كثيرة أكثر صمماً من المسؤولين في الأحزاب والسلطة , وأنّ مخاطبته لن تستفزّه كثيراً لأنه ينام على وهم الشعور بضرورات المصالح الوطنية , وعلى رزم من الشعارات الكبيرة لتُسقط حقّه في الاعتراض على تدابير واحترازات في الأمن والسياسة .
لقد استسلم اللبنانيّون لخيارات الطبقة السياسية في الاختلاف وفي التوافق وهم متحمّسون جداً لتيّاراتها الحزبية والطائفية وحاضرون وجاهزون للاقتتال من أجلها وللتّسالم من أجلها أيضاً , ومستعدون للنوم جائعين على أن تبقى نُخبها مُتخمة وقصورها عالية , لا شيء يحول بينها وبين أناس شربوا حليبها المُقدّس , لهذا نراهم حيث ترتئي مصالح الزعماء وتيّارات السلطة , وان كانت هذه الأمكنة مُضرّة بمصالحهم , وقدّ شربوا ضرورة بلع الاسئلة لأنها متعبة لعقولهم التي لا تتسع لها أجوبة جهابذة ملل ونحلل الطوائف وأحزابها . قدّ نجد لهذا الانتماء الأعمى أسباب كافية متصلة بطبيعة النظام الطائفي الذي عزّز علاقة المواطن بطائفته لا بالدولة لأن الطائفة هي الممرّ الآمن لتأمين مصالحه داخل وخارج الدولة . ولكن كيف نبرر للمواطن اللبناني سكوته عن أزماته الاقتصادية المفتوحة على الفقر والجوع والعوز , ولماذا يسكت المواطن عن حقوقه المسلوبة في الأمن الذي اجتاحه فجأة وجعله عرضة للاستهلاك في وقته وماله . لقد وقف اللبنانيّون جميعاً وقفة الرجل الواحد في الموضوعات الأمنية وتحملوا أعباء التدابير والاحترازات والوقوف صفوفاً طويلة ولوقت أطول لايمانهم بجدوى الأمن المُتخذ وكانوا يعتقدون بأن المسألة مسألة مؤقتة ومن ثمّ تعود الحياة الى طبيعتها ولكن بدا الوضع مفتوحاً الى مالا نهاية مادامت مضاعفات الأزمة السورية مفتوحة على الحرب الطويلة فيها . لقد زمّت الشوارع في بيروت وباتت الطرقات أسيرة اسمنت المسؤولين الصغار والكبار وبات أمن أيّ شخص يستدعي تدابير معوّقة لحركة المواطنين , وبات الوصول الى البيت أمر بغاية الصعوبة وهو مُكلف اذا أن أصغر مفرق يحتاج الى تنكة بنزين لاجتيازه , كما وأن الصعود من والى الجنوب مشقّة واسراف في الوقت والمال . كل هذا والنّاس نيام مادام أهل العقد والحلّ مرتاحين ولا شيء يعكّر مزاجهم السلطوي .. نحن لا نستنكر خطوات الأمن لأنها التدابير الممكنة ولكننا نطالب بوضع حدّ لفلتان تسكير الشوارع بمبرر وغير مبرر والتسهيل في المرور ودفع فواتير الطوابير من السيّارات التي تحرق البنزين لصالح الشركات ومحطّات الوقود عبر تخفيض سعر تنكة البنزين والاّ لا معنى لأمن يمرّ بجيوب المواطنين ولصالح الشركات.. ثمّة دوافع كثيرة وغير متعلقة بالسياسة وبمصالح قوى السيطرة , وهي مرتبطة بمصالح النّاس من الرغيف الى الدواء وفرص العمل وطبيعة التنقل دون الاستنزاف للوقت والمال اضافة الى عناوين متصلة بالشأنين الاقتصادي والاجتماعي . على المواطن أن يعي ضرورة النهوض والاعتراض من أجلها لحماية مصالحه المتآكلة لصالح طبقة سياسية لا تُفكر الا بمصالحها وعلى حساب الجماهير التي تدّعي تمثيلها , والاّ سنشهد المزيد من التدابير المُفقرة لفقرنا. انني أفهم تماماً لماذا لا يولد ربيع لبناني في واقعنا السياسي الطائفي؟ ولكن ما لا أفهمه كيف لا يولد ربيع اجتماعي يرعى مصالح النّاس المفقودة في ظلّ تنام مستمر لأزمة اقتصادية واجتماعية مثقلة وموجعة وطاحنة لعظام الأغلبية اللبنانية من فقراء الطوائف .