منذ عشر سنين، بدأت تتشكل عندي بوادر العمالة مع بدء تكوّن وعي سياسي أولي في داخلي. اخترتُ وقتها أن أكون مختلفاً عن الآخرين. سلكتُ درباً، قلائل هم الذين تجرأوا على خوض غماره. لم أكن أريد تحقيق كسب مادي أو معنوي، لكني أدرك اليوم أيّ تهلكة وضعتُ نفسي فيها. أدرك مدى خطورة ما فعلت. لقد ارتكبتُ أخطر جريمة يمكن أن يُتهَم بها انسان في بلدي. وها أنا اليوم أكتب رسالة اعترافي. فليقبضوا عليّ بعدها وليحاكموني إن أرادوا. لا فرق عندي طالما أني اعترفت.
أعترف أني خائن للمجتمع لا للوطن، للشعب لا للأرض، للحكام لا للدستور. أعترف أني خائن لأنني أعشق الأرزة الخضراء، أعشق صورتها بين خطّين أحمرين عريضين على خلفية بيضاء. أعترف أني خائن لأني أصاب بالقشعريرة والحماسة كلما سمعتُ النشيد الوطني، لأني بكيتُ عندما قرأت سيرة الرئيس فؤاد شهاب، لأني أتألم عندما أعقد مقارنة بين لبنان فترة الإزدهار ولبنان اليوم. أعترف أن كل خلية في جسدي مجرمة، وأن الدم الذي يجري في عروقي فاسدٌ لأن ولائي هو لمعشوقي وحبّي الأبدي، لبنان، الذي ينظر اليه الآخرون كبلدٍ فحسب. أراه كائناً يتألم ويبكي، لا لأن أبناءه يمعنون في طعنه بالسكاكين، بل لأنهم لا يسمعون صراخه وأنينه. أراه كياناً مقدساً وأمة عظيمة تضرب عميقاً في جذور التاريخ. أراه روحاً صافية نقية يتربص بها الحاقدون والحاسدون والخونة والمرتزقة والمرتشون ومتخرجو الحرب الأهلية والفاسدون واللصوص والمجرمون والأقربون والأبعدون والأشقاء والأصدقاء والأعداء والأبناء. اللائحة طويلة طويلة.
أعترف أني خائن لأن الوطنية في لبنان تقاس بالكتف المخلوعة، والصوت المبحوح كصوت الخروف، واليدين الحمراوين. كتفٌ خلعتها كثرة المناداة باسم فلان أو علان، وصوتٌ بُحّ من كثرة ما هتف لبّيك فلان أو بالروح بالدم نفديك يا فلان... ويدان حمراوان من كثرة التصفيق لخطاب الزعيم الفلاني، والعميل العلاني، والخائن الخطيب، والمرتزق السياسي، والجاسوس الاعلامي، والمنافق الاستراتيجي. أعترف أني خائن لأني لم (ولن) أفدِ بدمي وروحي وجسدي إلّا الأرزة، إلّا لبنان. أنا خائن لأني لم (ولن) أصفق للمرتزقة يخطبون، لم ولن أتظاهر لأسمع خطباً للعملاء والمرتشين يعلّمون معنى الوطنية. أنا خائن لأني لم "ولن" أهتف لسياسي عاهرٍ يبيع رأيه ونفسه للدولة التي تدفع أكثر. أنا خائن لأني أرفض أن أكون جزءاً من قطيع الماعز أو الخراف الطويل الذي يسير وراء التيس تحيط به كلاب الحراسة الوطنية. أنا خائن لأني قادرٌ على انتقاد كل مَن عمل في الحقل السياسي، لأني لا أقدّس زعيماً، ولا أعلّق إلاّ صورة العلم اللبناني في بيتي. أنا خائن لأن لا قضية تحتل المرتبة الأولى لي إلّا قضية وطني، لأن كل قضية أخرى لي ليست أولاً ولا ثانياً بل قد أفكر في أن تكون في المرتبة الألف. أنا خائن لأني أرفض الوقوف على باب الزعيم لأحصل على وظيفة، لأني أرفض تدخل أصحاب "القبابيع" في السياسة، أرفض أن يكون لهم رأيٌ في كل شاردة وواردة، في كل قانون، في كل مرسوم، في كل مقال، في كل إعلان، وفي كل شيء. أرفضهم لأن "قبابيعهم" غطاءٌ للعصابة التي يشكلونها بالتحالف مع الزعماء حتى يهلكوا البلد. أنا خائن لأني مؤمن، لكن إيماني وديني طريقٌ اخترته للوصول إلى النور الكلي لا إلى وظيفة أو منفعة. أنا خائن لأن الوطن عندي يتقدم على الطائفة. لأن الملحد المؤمن بالوطن أقرب إليَّ من ابن طائفتي إن كان خائناً. ها أنا أعترف أني أعشق لبنان، وتراب لبنان، وأرز لبنان، ومياه لبنان، وهواء لبنان، وجبال لبنان، وسهول لبنان، وسماء لبنان، بينما أمقت بعضكم وأشفق على معظمكم. أمقت الطفيليين الذين يعيشون على أبواب المرتزقة، وأشفق على الذين غُسلت أدمغتهم من كثرة ما سمعوا ورأوا قادتهم وإعلامييهم ومحلليهم.
أعترف أن كل خلية في جسدي لبنانية. تعالوا واقبضوا عليّ، وارجموني، واشنقوني، وقطِّعوا جسدي. أنا لا أخشاكم، ولا أخشى زعماءكم المنافقين. إذا كنتم تعتبرونني خائناً وأنكم وطنيون، فبئس وطنيتكم الخسيسة هذه. بئس حياتكم التي لا تختلف في شيء عن حياة القطعان! بئس تظاهراتكم تقومون بها متى أمركم أصحاب "القبابيع" أو تيوس الماعز! بئس أرواحكم المريضة! بئس عقولكم المغسولة والمدفونة! بئس آراؤكم! وأنتم لم يكن لكم في حياتكم رأيٌ، بل إنكم ببغوات تردد ما يقوله الزعماء والمحللون المطبّلون المزمّرون. اشتموني قدر ما شئتم، اليوم، وغداً، وفي كل حين، لكن قبل أن تفعلوا ذلك، حاوِلوا البحث عن سيئةٍ واحدة في زعيم قطيعكم، وحسنةٍ واحدة في زعيم القطيع المنافس لكم. حاوِلوا، ولن تجدوا، لقد بعتم أدمغتكم وأرواحكم منذ زمنٍ بعيد.
حفيد فخر الدين