المثقّف المتديّن ظاهرة، وليس فرداً أو أفراد، هذه حقيقة لم تعد قابلة للشك والارتياب، ثمّة تيار أو شريحة ثقافية يمكننا أن نطلق عليها اسم المثقّف الديني، شريحة تتخارج وتمتاز عن شريحة علماء الدين وخرّيجي الحوزات الدينية دون أن نسلب الثقافة عن غيرها أو نُفقِدَها العلم الديني، شريحةٌ ولدت من رحم المناخ الديني، بعضُ أفرادها كانوا ضمن الحوزات العلمية والمعاهد الدينية، وبعضهم كان على مقربة منها تفصله مسافة بسيطة، وبعضهم حاول من بعيد أن يلامس الدينَ بالوعي والمعرفة، مع التزامه الديني ومنطلقه الإسلامي.. لكن على أيّة حال، شريحة لم يعد يمكن تجاوزها، بل تنامت حتّى رأى البعض أنّها غدت تنافس المراجع الدينية الرسميّة في بعض وظائفها.
1 ـ أهم مشكلة واجهتها هذه الشريحة وما تزال، مشكلة الشرعية التي أثارتها الحوزات وخرّيجوها، ثمّة شك في كفاءة هذه الفئة للخوض في المباحث الدينية، بل ثمّة من يمنع عليها ويحجر التفكير الديني والبتّ في قضايا الدين، وذلك انطلاقاً من عدم وعيها التام بالتراث الديني وعلومه، وقد عزّز هذا الاعتقاد في أوساط التيار الرسمي بعض الهفوات الفاضحة التي وقعت فيها هذه الشريحة، مما زاد من الحملة عليها والتشكيك بقدراتها.
لكنّنا لا نجد ذلك عذراً، فأن تكون هناك هفوات واقع لم تسلم منه أي مؤسسة علميّة على مرّ الزمن، وصفحات التاريخ بين أيدينا تشهد عند تصفّحها على هذه الحقيقة.
وأمّا عدم اتخاذ هذه الشريحة منهاج الدرس الديني الرسمي أو عدم قولها بآليات الاجتهاد المتعارفة، فهو خلاف منهجي، يمكن أن يقع داخل أي تيّار، ومن ثمّ فلا يصحّ جعله منطلقاً لعدم الشرعيّة، ما دامت المناهج كلّها منتميةً ـ على الأقل ـ إلى مدارس الفكر العريقة في تاريخ الإنسان.
وأما الشكّ في نوايا هذه الشريحة وكفاءتها الأخلاقية، فهذا موضوع لا يجوز الحديث فيه على مستوى جماعة أو تيار، فإن فيه الكثير من الإجحاف والظلم، نعم، لا نُبدي ممانعةً إذا ما كان الكلام خاصّاً في دوائر أفراد أو فئات قليلة محدودة، إذ لا ينبغي حُسن الظن بما يفضي إلى الحماقة، لكن وجود أفرادٍ وفئات محدودة داخل هذه الشريحة لا يبرّر محاكمة النوايا عموماً أو اتخاذ مواقف مشكّكة من الجميع، وإلا فالأمر ينسحب على أي شريحةٍ أخرى في المجتمع حتّى لو قال البعض: إنه بدرجة أخف.
2 ـ لكننا مع اعتقادنا بضرورة وجود هذه الشريحة، وتكوين منافس داخلي، يمكن لوجوده أن يساعد في نموّ العلم والمعرفة، نلاحظ على هذا التيار ملاحظات عدّة نهدف منها أن ترشّد وتصوّب وإن كنّا نجد بعض هذه الملاحظات في الشرائح الثقافيّة الأخرى أيضاً، فقد بدا واضحاً أن المثقف الديني ـ وطبعاً في الحالة الغالبة لا الدائمة ـ غير خبير بالتراث الإسلامي المعرفي، على خلاف غيره، وأركّز هنا على الطبقات المتوسّطة، ثمّة معالجات حسّاسة لموضوعات فقهية أو فلسفية أو... تُثار اليوم من قبل البعض دون تكوين خلفية تراثية محكمة، ولهذا وجدنا أن بعض مثقّفينا يملك اطّلاعا ًواسعاً على واقعه المعاصر واطلاعاً كبيراً على النتاج الغربي، لكنه لا يدري ــــ بالشكل المطلوب ــــ بالتراث الإسلامي وعلومه، وأين وصلت اليوم هذه العلوم.
ولعلّ هذه الظاهرة سببها التشكيك في جدوى نتاجنا المعرفي عند هذا المثقّف، لكن على أية حال، لا يمكن للمثقّف أن يشقّ طريقه أو ينافس خصمه بمعزل عن رؤى تراثية معمّقة وناضجة مهما كان الموقف النهائي من التراث نفسه.
3 ـ وإذا كان هذا المثقف يريد من مشروعه ومن ذاته ـ كجماعة ـ أن يُجري إصلاحات على الوضع الديني وفق ما يراه، وهو حقّه، إلاّ أنّ غفلةً حصلت لدى البعض عن غرض هام ورئيسي، إن المثقف الديني في كثير من الأحيان لا يُبدي لنا أن عنده همّاً دينياً بقدر ما يبدي لنا أنّ همّه في إحلال السلام، والتعددية، والحرية، والديمقراطية و... في المجتمعات الإسلامية، وهذا مطلب هام وجدير بأن يكون من الهموم الأساسيّة، لكن الهمّ الديني، وهمّ الحفاظ على الدين ونشر قيمه وتعاليمه يبدو مغيّباً دون أن ندّعي أنّ مفاهيم السلام و... هي مفاهيم دينيّة أيضاً، إن هذا التغييب يفضي إلى الشك في المشروع كلّه، ويجعل مثقّفنا الديني غريباً عن مجتمعه أو محارباً، لم يُظهر لنا هذا المثقف تحرّقه على الدين، ولم يُظهر لنا عواطفه الدينية، ولعل هناك أسباب لذلك، لكن إبداء المثقّف الديني عواطفه الدينية تجعله يقترب من واقعه أكثر ويغدو مؤثّراً أكثر، والأهم أنّ هذه العواطف حينما تحكم المثقّف الديني تشكّل لديه عناصر أمان واحتياط من الانزلاق أو التجافي عن الدين عموماً، إننا نخاطب هنا المثقّف الديني الذي يؤمن بالدين ويسعى لأجله لا المثقّف الآخر.
4 ـ وإذا كان المثقّف الديني يحمل الهمّ الديني ويعمل لتحكيم الدين في الحياة بالدرجة التي يؤمن بها، فإن المطلوب منه أن يحمل مشروعاً للتغيير فيكون إنساناً رساليّاً، وأن يعمل لصالح المشروع هذا، أي أنّه مطالب بالفعل الإيجابي الذي يحقّق مشروعه وأهدافه في المجتمع، ومن ثم فلا يجوز له هدر طاقته بالفعل السلبي الذي يستنـزف ذاته، في ردّات فعل أو إسقاط مشاريع أخرى لا غير.
إنّ ملاحظةً بإمكاننا تسجيلها على المثقّف الديني المعاصر وهي أنّه استهلك نفسه في نقد التيارات السلفيّة أو التراثية أو المدرسيّة، وأَخَذَ يلاحق مفردةً مفردة، بل صار شغله الشاغل وعمله الدائم تتبّع عثرات ذلك التيار والعمل على نقضها بأساليب مختلفة، ليس آخرها أسلوب الاستهزاء والاستخفاف المعبّر عن نرجسية عالية وعن طاووسيّة غير عاديّة، لقد أذاب المثقف نفسه في ملاحقة هذه الهفوة هنا أو تلك السقطة هناك، وإذا به ينفض الغبار عنه فيرى أنه لم يحقّق شيئاً، ولم ينجح في مدّ جسور العلاقة الطيبة مع مجتمعه فبقي غريباً تُهجر حِكَمُه، ويُتعامى عن كلامه.
بل لقد ألقى هذا المثقف ـ بعد فشله ـ باللائمة على التيارات الأخرى أو على مجتمعه مطهّراً نفسه ومنـزّهاً إيّاها عن الخطأ أو التقصير... مستخدماً على الدوام المنطق الذي طالما حاربه، وهو منطق المؤامرة وإلقاء الفشل على الآخر...
أين هو مشروع المثقّف المتديّن؟ وماذا يريد؟ ولماذا بقي هذا المثقف عاجزاً عن تحقيق أهداف كبرى؟ ولم يتمكّن من كسر الطوق عنه؟
أسئلة كثيرة، لا نريد أن نظلم المثقّف هذا بتحميله هذه المسؤوليات كلّها، بل نحن نقرّ إقراراً عميقاً بصعوبة الموقف، وخطورته في الوقت نفسه، لكن مع ذلك نعتقد أن لهذا المثقف في آليّاته، وفي انفعالاته وردّات فعله دور في القطيعة التي وقعت بينه وبين مجتمعه، مهما نعتنا هذا المجتمع بالتخلّف والرجعيّة.
5 ـ وإذا كنّا نطالب المثقّف الديني بأن يحمل الهمّ الديني ويُبدي عواطفه الدينيّة، فإن لذلك أثراً جليّاً، إن هذا المثقف استغرق في نقد المقولات الدينية... كانت بادرة شريفة منه أن ينقد الموروث ليميز بين ما هو من الدين وما علق به عبر السنين، لكننا أحياناً وجدنا هذا المثقف خجلاً من أن يناصر مقولةً دينيةً، عندما يكون مقتنعاً بها، كي لا يبدو أمام الآخرين أنّه أيديولوجي أو متخلّف، بل قد يغضّ هذا المثقف الطرف أحياناً عن نقد غير منطقي موجّه للدين ـ وفقاً لرؤيته ـ ولا يفتح جبهةً من النـزاع الفكري والثقافي، ولكنه في المقابل لا يتحفّظ عن فتح جبهات لنقد التيارات السلفية أو التراثية أو المدرسيّة، لماذا ينأى المثقّف الديني بنفسه عن أن يُتّهم بأنه متصدٍّ للدفاع عن الدين، ولا ينأى بنفسه عن أن يكون ناقداً للموروث الديني رغم أن الوظيفتين شريفتان، ومسؤوليّتان يتحملهما هذا المثقف على السواء؟!
وإذا كان المثقف يرفض النـزعة الدفاعية فإن هذا حقّه، بل نحن نرى معه بأنّ الأولويّة في هذا العصر للنـزعة البنائية لا الدفاعية، إلا أنّ هذا لا يعني أن يغض الطرف ــــ دوماً أو غالباً ــــ عن ممارسة دفاع عن الأفكار الدينية عندما تتعرّض لنقد تجديفي أو لمناقشة علمية.
6 ـ وحيث كان المثقّف الديني مهمشاً ـ ظلماً وعدواناً ـ في مجتمعه، بل مقموعاً أحياناً من جانب السلطة السياسية أو تحالفها مع الاقتصاد، أو مقموعاً أخرى من جانب التيارات التراثية.. فإن من الطبيعي أن تبدو لديه أحياناً ردّات فعل سلبية تحاول فك القيود المفروضة عليه، وقد تأخذ ردّة الفعل هذه طابعاً معرفياً عندما يحاول نقد الموروث مقدّمةً لنقد واقعه، في محاولة تعبّر عن مطالبته بذاته وبدوره في الحياة، وهذه كلّها أمور منطقية مترقّبة، لكننا نريد أن نقرأها من الناحية القيمية، نريد أن نؤكّد أنّ على المثقف مجانبة الانتفاض الهائج على المفاهيم الموروثة انطلاقاً من واقعه هو، ومن ثمّ لا ينبغي له التركيز على تلك المقولات التي تسلبه دوره ككيان اجتماعي بعيداً عن صحة هذه المقولات أو بطلانها، ولكي أقرّب الفكرة بمثال، يمكن أن نأخذ مسألة التقليد والاجتهاد، فمهما كان موقفنا منها، وهذا حقّنا، لكن يجب أن نحذر من أن نتخِذ موقفاً سلبياً منطلقاً في اللاوعي من أن هذه المقولة تسبّب غياب دور المثقف لصالح رجال الدين، ومؤسسة علماء الدين.. إن مراقبة الذات عن أن تتحكّم في أفكارنا نتيجة أوضاع معينة يبدو لازماً لتحقيق أكبر قدر ممكن من الأمانة والموضوعية والإخلاص للعلم.
وما نقولـه لا يخصّ المثقف المتدين بل هو ظاهرة عامّة تطال غيره على السواء، ومن ثم كما لا يحق التنظير وخلق المفاهيم لتكريس الواقع والمحافظة على المواقع، كذلك لا يصحّ النقد وهدم المفاهيم إذا كان في تكريس الواقع مضرّة على الجماعة المعيّنة، وإذا لم نبذل الجهد في التعالي عن هذه المعارك الحزبية والفئوية الضيقة، ولم نفكر في الأمّة كلّها بما لها من امتداد في الزمن فسوف نبقى ندور في دوّامات لانهاية لها.
5 ـ وعندما يكون المثقّف الديني صاحب مشروع تغيير، يغدو لزاماً عليه أن لا يقتل نفسه في شرنقة خطاب النخبة، لقد قطعت أواصر العلاقة بين المثقّف والمجتمع، وكان من أسباب ذلك عزوفه عن مجتمعه، واكتفاؤه بالعيش في الأبراج العاجيّة للثقافة وفي الصالونات المخمليّة كذلك، كان الآخر يبني ـ انطلاقاً من إرث تاريخي ـ علاقات استراتيجيّة مع الجماهير، وهو ما لم يفعله المثقّف، فخاصم أمّته، وربما كانت الأمم الأخرى أهون على قلبه من أمّته.
إن المثقّف الديني يتعذّب من هذا الوضع، ويجب عليه أن يفكر في حلّ، ولعل أوّل الحلول خلق روح التواضع والعيش مع الناس في روح هذا المثقف، وتحويله من منظّر فكري بحت إلى إنسان رسالي تطال رسالته الناس وهمومها كما تطال الثقافة وتشعّباتها، ومن ناقد لاذع فقط إلى أمّ رؤوم تعنيها مشاعر طفلها لإصلاحه بقدر ما يعنيها إرشاده إلى الخطأ..