انقضى عمر أمتنا العربية والإسلامية بين محنتين كبيرتين، وأزمتين باقيتين، وعقلين متحجرين، وتفكيرين ضيقين، وفهمين قاصرين، ومنهجين دخيلين، ومقاييس باطلة، ومعايير فاسدة، وحساباتٍ خاطئة، واجتهاداتٍ في غير محلها، وأحكامٍ في غير زمانها، وقادةٍ جهلاء، وصبيةٍ صغار، وأولادٍ لا يعون، ولا يقدرون ولا يفهمون، يحكمون بالبندقية، ويرهبون بالعصا، ويخيفون الناس بالتفجيرات، وكبارٍ يؤدبون الآخرين بالسجون والمعتقلات، وبالقضاء والمحاكم، وبالقوانين والتشريعات.
ومسؤولين سفهاء، ومشرفين غير حكماء، كانوا سبباً في تقسيم الأمة، والوقيعة بين أبنائها، وإحداثٍ شرخٍ كبيرٍ فيها، يزداد ولا ينقص، ويتعمق ولا يردم، ويباعد ولا يقرب، وينفر لا يبشر، ويشوه صورتنا ولا يجملها، وينفر الناس ولا يقربهم منا، وكلهم لا يعنيهم الإصلاح، ولا تهمهم مصالح أمتهم.
فهذا فريقٌ يتهم الآخر بالتبعية والرجعية، والانغلاق والتحجر، والتخلف وعدم التمدن، وبأنهم أذناب الاستعمار، وذيول الإمبريالية، وورثة القوى الرجعية، وأنهم عملاء مأجورين، وجواسيس مندسين، يعملون لحساب جهاتٍ معادية، وينفذون تعليماتِ دولٍ أجنبية، وأجهزةٍ أمنية دولية، وأن مرجعياتهم غير وطنية، ومنطلقاتهم غير قومية، وأنهم ينسقون مع غيرهم، ويتلقون دعماً مالياً من جهاتٍ معادية، وأخرى مشبوهة.
كما يتهمونهم بأنهم يستثمرون أموالهم في الممنوع، ويتاجرون في المحرم، ويضاربون في البلاد وخارجها، ويتعاملون في البورصات ولهم أسهمٌ في البنوك والمصارف الوطنية والأجنبية، وعندهم حساباتٌ سرية، وأخرى بأسماء غير حقيقية، وأنهم لا يوالون أمتهم، ولا يؤمنون بالروابط بينهم، وأنهم يفرطون في أمن بلادهم، وسلامة أوطانهم، لصالح حملة أفكارهم، والمؤمنين بعقائدهم، ولو كانوا معادين لبلادهم، ومختلفين مع حكوماتهم.
ويحلو لهذا الفريق أن يصف أتباع الآخر، بكل الصفات الدنيئة الحقيرة، التي لا تليق ببني البشر، ولا تصح أن تكون بين أبناء الأمة الواحدة، الأمر الذي يزيد في حجم الهوة ويعمقها، ويعقد الخلاف بينهما ويشعبه، ويجعل من فرص التلاقي صعبة، واحتمالات الوفاق مستحيلة.
إذ يصفونهم بالجهلة السفهاء، وبأنهم سفلةٌ أنذال، ومنحطين حقراء، وأنهم رعاعٌ لا يفهمون، وهمجٌ لا يتحضرون، لا يستوعبون الحضارة، ولا يقبلون بالفن ويحاربون الفنانين، ولا يجيزون الإبداع ويحرمون التجديد.
وأنهم إرهابيون مخربون، وفاسدون ومنحرفون، وأنهم السبب في الفوضى والخراب، وأنهم وراء التفجيرات والعمليات الإرهابية، فهم يخططون وينفذون، أو يوفرون الحاضنة المناسبة، والرعاية المطلوبة، أو يحمون المنفذين، ويتسترون على المجرمين، ويسهلون عملياتهم، ويساعدونهم في تنفيذها، بجمع المعلومات التي تلزمهم، أو إخفاء المعلومات التي تخصهم وتدل عليهم، والتعمية عنهم، وتضليل الجهات الأمنية.
ويتهمونهم بأنهم يصدرون الثورات، ويرعون الانقلابات، ويتآمرون على الأنظمة والحكومات، وأن خلاياهم النائمة تعمل باستمرار، وتنهض في كل وقت، بما يهدد السلم والأمن، ذلك بأنهم لا يحبون الاستقرار، ولا يقبلون بالوفاق والأمن والسلام، بل يحبون إشاعة الفوضى، والإكثار من المظاهرات والاضطرابات، وتعكير الحياة العامة، وغير ذلك من الصفات والنعوت، التي تضر ولا تنفع، وتسيئ ولا تخدم.
ويحكم هذا الفريق على خصومه بأحكامٍ قاسية، يجردهم بها من حقوقهم في المواطنة، ويتهمهم في وطنيتهم، ويصدر أحكامه عليهم بأنهم إرهابيين وقتلة، وأنه يجب أن تفتح لهم السجون، وتشرع في وجوههم المعتقلات، ويشجعون القضاء والمؤسسات التشريعية، لتخرجهم عن الشرعية، وتعتبرهم خارجين عن القانون، ثم تحرمهم من حقهم في العمل والوظيفة، وتعاقبهم وأولادهم في الحياة العامة، وكأنهم منبوذين ملعونين، أو مرضي يحملون العدوى، يجب عزلهم وفصلهم، وحرمانهم من أي مشاركة في الحكم والسياسة.
أما الفريق الآخر فيتهم الأول بالكفر والفسوق، والعصيان وإيتاء الكبائر، والانحراف والضلال، والبدعة والزندقة، والانحلال والتفسخ، والزنا والتعري، والفتنة والشبهة، وأنهم يدعون إلى الاختلاط، ويشجعون على فساد الأخلاق، ويعطلون ما فرض الله ورسوله، وأنهم يفرطون في الفرائض، ولا يؤدون الصلاة، ولا يصومون شهر الله، ولا يعظمون شعائره، وأنهم يحرمون الحلال ويحلون الحرام، ويرتكبون في كل يومٍ الكبائر والموبقات.
ويتهمونهم بأنهم يغيرون في الشكل، ويتدخلون في الخلق، وينمصون في الوجه، ويوصلون الشعر، ويعبثون في الشفاه والحواجب، وفيما خفي من الجسم وظهر، ويكشفون عن عورات الجسد، دون مراعاةٍ لحرمة، أو تجنبٍ لفتنة، وأنهم يتشبهون بالكفار، ويقلدون غير المسلمين، وأنهم يحبون أن تشيع الفاحشة بين المسلمين، وأن يرتكب أولادهم الحرام، ويقترفون المنكر.
ويتهمونهم بأنهم يوالون الحاكم، وينافقون السلطان، ويؤيدون الأحكام الوضعية، ويعطلون الأحكام الإلهية، ويعترضون على النصوص القرآنية، ويفرضون مفاهيم غير إسلامية، ويتعاملون بالربا والنسيئة، ويمتنعون عن الزكاة والصدقة، ويجاهرون في الشارع بالإفطار والمعصية، واقتراف الحرام وممارسة غير المشروع من الفعل.
ويحكم هذا الفريق عليهم بأحكام الكفر والردة، وحدود المعصية والزندقة، ويقاطعهم ويدعو لفرض العزلة عليهم، وعدم الاختلاط بهم، أو التعامل معهم، أو الدفاع عنهم، وتبرير تصرفاتهم، أو بيان حقيقة نواياهم، وتفسير سلوكهم إن كانت هناك تهمة، أو عدم وضوحٍ في الرؤية.
ويتهم المتعاونين معهم بالكفر مثلهم، أو الضلال معهم، والتستر عليهم، ويطالب بإقامة الحدود عليهم، قتلاً ورجماً وجلداً وقطعاً للأيدي، ويجمع الناس ليشهدوا عقابهم، والقصاص منهم، لمزيدٍ من الإهانة، أو لبعض الدرس والموعظة، أو لشئٍ في النفس غير هذا وذاك، ليرتدع فريق، ويخاف آخر.
أمام هذين الفهمين المتناقضين، والصفات المتنابذة بين الفريقين، فإن الأمة قد ضاعت وتمزقت، واختلفت وتباينت، بين تكفير البعض وتخوين الآخر، فهذا الفريق قد نصب نفسه حامياً للوطن، وحارساً للعروبة، وقيماً على آمال وأهداف الأمة، فخون من عارضه، واتهم من نافسه، ووصفه بأنه عميلٌ مندس، وجاسوسٌ خائن.
بينما جعل الآخر من نفسه خليفة الله على أرضه، ووصياً على دينه، يرى أنه يحكم بما أنزل الله، وأنه ينفذ مشيئته على الأرض، ويطبق منهجه بين البشر، فكفر دون علم، وأخرج من الملة دون سببٍ، وطبق أحكاماً عطلها الشرع إلا بشروط، وعلق تنفيذها إلا بموجباتٍ وظروف.
بين التكفير والتخوين غاب العقل، وفُقدَ المنطق، وساد الكره، وحلت بالأمة المصائب والنكبات، ولا أحد من الطرفين يريد أن يدرك أن هذا الوطن لنا جميعاً، ويسعنا كلنا، لكن بمحبةٍ وتفاهم، وبصدقٍ وإخلاص، فإن لم نقبل بالعيش فوقه أحياء، فإننا سنجبر على أن نسكن جميعاً في جوفه أمواتاً.