كانت عنايتي بهذا الموضوع مبكرة. إذ كان التعرف على الوجودية مظهراً من مظاهر شخصية المثقف المعاصر وكان رائد الوجودية آنذاك الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي ترجم مثقفون عرب غالبية كتبه إلى العربية.. والحق أن سارتر هو أحد فلاسفة الوجودية وليس الوحيد والحق أيضاً أن النزعة الإلحادية في هذه الفلسفة ليست نزعة شاملة وهي تخص بعض فلاسفة الوجودية وليس جميعهم.. أي أن هذه الفلسفة ليست في أساسها قائمة على الإلحاد ومن الفلاسفة الوجوديين من هم مؤمنون (كيركارد) و(كارل باسبرز) وغيرهم. لكنّ العناية بمسألة الحرية تكاد تكون القدر المشترك بين الوجوديين.
الفلاسفة المسلمون لم يعالجوا موضوع الحرية بمعناها المعاصر الحديث الذي استولدته الثورة الفرنسية وأدبياتها والأنظمة السياسية والاجتماعية الغربية في العصور الحديثة. وإن كان علماء الكلام المسلمون قد عالجوا مسألة (الجبر والتفويض) وانقسموا بين مجبَّرة ومفوضة وبين قائلين لا جبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين.
وفي كل الأحوال فإن مفهوم الحرية الجديد لم يكن جزءاً من اهتمام هؤلاء العلماء والمفكرين.
تقوم لوجودية على اعتبار الكائن – الإنسان خالقاً لوجوده من حيث كونه مختاراً لأعماله وبالتالي فهو مسؤول عن سلسلة الاختيارات التي يتشكل منها وجوده.
وهي تقرن بين فعل الاختيار الحر والقلق الذي يسبق هذا الاختيار ويرافقه، أي أننا قبل أن نختار يكون أمامنا خيارات متعددة ونكون أحراراً في الأخذ بأيّ منها. أما حين نقدم على الاختيار فإن مساحة الخيارات المتعددة تتقلص، وبعبارة أخرى فإن مساحة الحرية تضيق ونصبح أسرى للخيار الذي اتخذناه ويتسرب إلينا القلق جراء فقدان حريتنا التي سبقت الاختيار.
إن جملة اختياراتنا في الحياة هي (ماهيّتُنَا) بحسب الوجودية وهي (أي الاختيارات) التي تقرر مصيرنا أي نحن الذين نقرر مصير أنفسنا.
بهذا المعنى قالت الوجودية بأن وجود الكائن – الإنسان يسبق ماهيته.. لأن الكائن يوجد أولاً ثم يبدأ باختيار ماهيته من خلال مواقفه واختياراته فهو – إذن – ليس مسؤولاً عن وجوده لأنه لم يكن مختاراً له ولكن مسؤول عن ماهيته التي كانت في دائرة اختياره اختياراً حراً.
في الإسلام “كل نفس بما كسبت رهينة” وفيه “ولا تزر وازرة وزر أخرى” فالإسلام يرى إلى الإنسان بوصفه كائناً مختاراً أي حراً وهو المخلوق الوحيد المسؤول عن أعماله بين الكائنات الحية في عالمه.. وهو لذلك صانع وجوده ومصيره واختياره للإسلام عقيدة، ليس قيداً خارجاً عن قواعد حريته فالإسلام واضح في اعتباره للعقيدة موضوعاً للاختيار الحر.
لا يوجد فرق بين الإسلام والوجودية في شرط الحرية للكائن الإنساني.. ولكن الوجودية لا تحدد هدفاً للكائن – الإنسان خارج وجوده، أي خارج دائرة ولادته وموته الأمر الذي يجعل الوجود مصدراً لقلق وكآبة ترافقان الكائن وتدفعانه إلى تحقيق وجوده، بكل ما هو متيسر من فرص الحياة من عبث ولذة أو من نضال في سبيل قضايا الحرية وكرامة الكائن الإنساني. وفقاً لقول طرفة بن العبد الذي كان وجودياً بامتياز في نظره الى الحياة والموت:
إذا كنت لا تستطيع دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
الإسلام جعل للوجود غاية تتجاوز حدث الولادة والموت هي الله.
والحرية هي أداة الكائن الإنساني للوصول إلى الله.. المطلق.
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه).
إن خساراتنا وانكفاءاتنا في الوجود لا عزاء لها في الفلسفة الوجودية. ولكنها في الإسلام تجد العزاء من خلال الهدف - الغاية التي تنتهي إلى الله.
هذه المقارنة بين رؤية الإسلام لموضوع (الحرية) ورؤية الفلسفة الوجودية ليست ذات هدف معرفي فحسب، ولكنها مدخل لإضاءة مساحات مشتركة للحوار بين حضارتين حضارة الإسلام وحضارة الغرب.
لعلّ حواراً كهذا يجعلنا نحن المسلمين نعترف أننا فرطنا بأمانة الحرية بوصفها الوسيلة إلى الله، ولعلّ الغرب الذي نجح في امتلاك الحرية وأعلى شأنها أدرك أنه فرَّط في الغاية الأسمى للحرية وهي الله تعالى.
وأختم هذه المقالة بآية (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولا).