"ويلٌ لأمة مقسمة إلى أجزاء..وكلّ جزء يحسب نفسه فيها أمة.."
كلمات نطق بها نبي الأدب والفن والحكمة الغائب الحاضر في أذهاننا جبران خليل جبران..كلمات أقرب ما تعبر عن واقعٍ سأمنا فيه مشهد اللاإنسانية، في زمن أحوج ما يكون لأمثال الجبران الخليل..
وُلِد الفيلسوف والأديب والشاعر والرسّام بين أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشرّي في لبنان في 6 كانون الثاني 1883م. لم يُرسل جبران إلى المدرسة ، بل كان يذهب من حينٍ إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جدّيته وذكاءه فأنفق الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.
عام 1894 خرج خليل جبران من السجن العثماني الذي كان قد دخله في ال1890، وسافرت العائلة تاركة الوالد وراءها، وصلوا إلى نيويورك في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدينة بوسطن حيث كانت تسكن أكبر جالية لبنانية في الولايات المتحدة.
اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران إلى المدرسة ، في حين بدأت الوالدة تعمل كبائعةٍ متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من أبناء الجالية ، كان معلمو جبران في ذلك الوقت يكتشفون مواهبه الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد إلى أن مدير المدرسة استدعى الرّسام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لجبران مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة اجتماعية مختلفة تماماً عما عرفه في السّابق.
وصل جبران إلى بيروت عام 1898 وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضاً و التحق بمدرسة الحكمة التي كانت تعطي دروساً خاصة في اللغة العربية. ثم تعرّف على يوسف الحويك وأصدرا معاً مجلة " المنارة " وكانا يحرّرانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده . وبقيا يعملان معاً بها حتى أنهى جبران دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر ( 1902) . وقد وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته ، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائداً إلى بوسطن بعد وفاة شقيقته سلطانة . وتوفي أخوه بطرس فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال مرضها الخبيث وقضت نحبها في السنة نفسها.
إضافة إلى كل ذلك كان جبران يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغباً في إتقان الكتابة باللغة الإنكليزية ، لأنها تفتح أمامه مجالاً أرحب بكثير من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في أميركا ( كالمهاجر ) ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس و لكنّ انكليزيته كانت ضعيفة جداً ، ولم يعرف ماذا يفعل ، فكان يترك البيت ويهيم على وجهه هرباً من صورة الموت والعذاب. إلى أن تعرف على "ماري هاسكل" امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دوراً هاماً في حياته منذ ان إلتقيا، فنصحته وشجّعته كثيراً على الكتابة بالإنكليزية مباشرة وليس الترجمة، وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولاً ثم يجمعها و يصدرها بشكل كتب، و يتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.
ثم انتقل جبران إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته، و هناك عرف نوعاً من الاستقرار مكّنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.
من أهم أعماله الأدبية: المجموعات القصصية "الأرواح المتمردة" و "الأجنحة المتكسرة" وكثير من الشعر المنثور مثل: "عرائس المروج"، و "رمل وزبد". وقليل من النظم مثل "المواكب". ومن أهم كتبه "النبي" بالإنجليزية وترجم إلى العربية، وترجم إلى أكثر من 20 لغة وبيعت منه ملايين النسخ.
توفي جبران في 10 نيسان 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك وهو في الثامنة والأربعين بعد أصابته بمرض السرطان. وقد نقلت شقيقته مريانا وماري هاسكل جثمانه إلى بلدته بشري في شهر تموز من العام نفسه. رحل تاركاً وراءه إرثاً أدبياً وفنياً عبقاً برائحة الخلود. وأوصى جبران أن تكتب هذه الكلمات على قبره بعد وفاته: " أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك".