في لبنان، إما أن يبلغ «الإهمال الوطني» حد التفريط بالحدود والثروات، كما هو حال ترسيم الحدود البحرية مع قبرص قبل سنوات، وحد تهديد الأمن الوطني والاقتصادي والاجتماعي، كما هو حال التعاطي بلامبالاة مع قضية العقوبات المالية الأميركية ضد «حزب الله» و«المنار».. وإما أن تؤدي «الصحوات» المتأخرة إلى تهديد الفرص المتاحة لتقويم الأخطاء أو تفادي ضربات جديدة.
فقد تجاوز الشلل الوطني حد إهمال قضايا الناس، إن كان في الرئاسة الشاغرة منذ سنتين، أو في المجلس المقفلة أبوابه منذ سنوات، أو في حكومة الأربعة وعشرين رئيساً التي تتغذى وتقتات من واقع الفراغ. صار البلد عبارة عن مركب تائه في بحر هائج.. بلا قبطان.
لم يكن مفاجئاً إقرار الكونغرس الأميركي، بمجلسيه، قانوناً يدعو إلى فرض عقوبات على المصارف التي تتعامل مع «حزب الله»، وإلى قطع تعامل قناة «المنار» التي صُنفت «إرهابية» مع مشغلي الأقمار الاصطناعية التي تبث برامجها. المفاجئ هو سياسة الأيدي المكتوفة لبنانياً، قبل أن يستفيق الجميع ويكتشف أنه لا بد من «الهجوم» على أميركا لتعديل قوانينها أو ترك بصماتهم على مراسيم تطبيقية لقانون أميركي صدر بالإجماع.
لم يتقدم أحد بسؤال عن آخر زيارة قام بها وزير لبناني إلى الولايات المتحدة. عن التوجيهات التي تعطيها وزارة الخارجية للسفارة اللبنانية في واشنطن، عن دور «اللوبي الاغترابي» الذي قررنا أن نمنحه الجنسية ونجنّد إمكاناته لمصلحة قضايا «البلد الأم».. وما أدراك ما هي هذه «الأم»؟
لم يقرأ هؤلاء ماذا حصل مع «البنك اللبناني الكندي» في الماضي القريب، وكيف أقفل هذا الملف. لم يعتبروا من قضية «البنك العربي» الذي حرض عليه الإسرائيليون بسبب حسابات تتعلق بحركة «حماس» ولم ينفع تدخل الملك عبدالله الثاني مع الرئيس الأميركي باراك أوباما لإقفال الملف.
ولم يتذكروا أنه قبل نحو سنتين، وبرغم تدخل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند مع نظيره الأميركي باراك أوباما، وافق مصرف «BNP PARIS BAS» الفرنسي على دفع غرامة مالية تقدر بنحو سبعة إلى ثمانية مليارات يورو للحكومة الأميركية، بعد أن اعترف بعدم احترامه لقانون فيدرالي أميركي يمنع التبادلات التجارية والصفقات المالية مع ثلاث دول كانت موضوعة على «اللائحة السوداء».. وهي كوبا وإيران والسودان.
وبرغم عظمة إنكلترا، وكل محاولات حكومتها، أُجبرت شركة BP البريطانية على إجراء تسوية بقيمة تزيد عن 18 مليار دولار مع الحكومة الأميركية وخمس ولايات أميركية في ملف حادثة التسرب النفطي في خليج المكسيك في 2010، بعد انفجار أدى إلى مقتل 11 عاملاً وتسرب النفط لمدة ثلاثة أشهر إلى سواحل ولايات أميركية عدة.
وهذه قضية سيارات «الفولسفاكن» الألمانية مؤخراً، ذلك أنه وبرغم اعتذار الشركة وسحب السيارة من الأسواق، يصر مجلس النواب الأميركي على إرغامها بدفع غرامات بمليارات الدولارات، بعد اكتشاف تلاعبها من خلال تزويد سيارات الديزل ببرنامج يسمح بانبعاث مواد ملوثة أعلى من المسموح به أثناء سيرها على الطرق.
حتى القيصر فلاديمير بوتين، اضطر لوقف اندفاعة دباباته في أوكرانيا بعد أن شهر الأميركيون سلاح العقوبات بوجهه.
ولا ننسى كيف أن المصارف السويسرية ركعت أمام التهديد الأميركي وقبلت بأن تقوم وزارة الخزانة الأميركية بإجراء مراقبة مباشرة على المصارف السويسرية، فانطوت صفحة السرية المصرفية التي لطالما تباهت بها هذه الدولة الأوروبية، طبعاً بعد أن تم إلزامها بدفع غرامة تقدر بنحو 10 مليارات دولار بسبب اكتشاف قيام مصارفها بمساعدة الأثرياء الأميركيين على التهرّب من دفع الضرائب للخزانة الأميركية.
هذه بضعة أمثلة حتماً أكبر.. وربما أهم من لبنان.
وإذا كانت المقاومة، بالنسبة لفريق لبناني وعربي هي عنوان انتصار، كونها فرضت تحرير أول أرض عربية بالقوة، وأجبرت الاحتلال على الاندحار كما هو حال المواجهات التي جرت على أرض غزة والجنوب اللبناني، فإن الإسرائيلي يريد تدفيعها أثمان هذه الإنجازات.
المفارقة أنه في الوقت الذي قرر فيه الأميركيون مد أيديهم إلى إيران، قرروا إرضاء إسرائيل بالضغط على «حزب الله» في لبنان من خلال سلاح العقوبات المالية.
هذا قرار سياسي.. ومسار تنفيذه سيخضع في حالتي الصعود والنزول للاعتبارات السياسية، لكن كيف يمكن التعامل مع المراسيم التطبيقية التي تحتاج إلى 120 يوماً لإنجازها اعتباراً من تاريخ صدور القانون؟
أولاً، لا بد من تحديد المرجعية الرسمية اللبنانية المعنية بمتابعة الملف: خلية أزمة حكومية، مصرف لبنان المركزي، وزارة المال، مجلس الوزراء، مجلس النواب، جمعية المصارف، مكاتب المحاماة.
يأتي طرح هذه الملاحظة في ضوء الفوضى التي تعتري التعامل الرسمي.. إلى حد تجرؤ الأميركيين على توجيه نصيحة رسمية للحكومة اللبنانية عبر السفارة في واشنطن، بأنه لا موجب لأية زيارة لبنانية إذا لم تكن محددة الهدف، وشرط أن تندرج في خانة التعامل مع موجبات القانون الأميركي.
فمن يدري كيف يتواصل كل مصرف لبناني مع وزارة الخزانة أو مع المصارف الأميركية، وما هي أولويات جمعية المصارف، وما هو الملف الذي أعده وزير المال، وماذا فعل حاكم مصرف لبنان رياض سلامة مؤخراً في العاصمة الأميركية، وهل يملك النواب الذين سيزورون الولايات المتحدة فكرة عن المهمة النبيلة التي ألقيت على عاتقهم؟
ثانياً: على مصرف لبنان أن يستعمل صلاحياته تحت سقف السيادة الوطنية، بحيث لا يجوز أن يفتح كل مصرف لبناني على حسابه مع حكومة هذه الدولة أو تلك، فقد بادر أحد المصارف إلى اتخاذ خطوة متهورة بإقفال حسابات توطين رواتب ثلاثة نواب، وعندما بلغته أصداء سلبية رداً على «فعلته»، وما كان يمكن أن يقدم عليه جمهور معين، سواء بسحب الأرصدة أو إقفال فروع المصرف المذكور في مناطق لبنانية معينة، استنجد هذا «المصرف المبادر» بالمصرف المركزي طالباً تغطية خطوته، بينما كان الأجدر به أن يعرض المشكلة، إذا كانت موجودة، على مصرف لبنان ويتم التفاهم على الخطوة المطلوبة منه.. وربما من غيره من المصارف.
والمفارقة اللافتة للانتباه أن مرجعيات رسمية ومصرفية لبنانية عدة راجعت السفير الأميركي في قضية إقفال حسابات النواب.. وكانت ردة فعله بالتهكم قائلاً «مصيبتكم أيها اللبنانيون.. أنكم تريدون دائماً أن تكونوا ملكيين أكثر من الملك». المضمون أن ما أقدم عليه هذا المصرف يندرج في خانة المبالغة في الانصياع للتوجهات الأميركية أو غير الأميركية.. وليس مستبعدا أن يصل الأمر ببعض المصارف إلى حدود اتخاذ قرار بإعدام أنفسهم وزبائنهم وبلدهم!
ثالثاً، لا بد من توقيع عقد مع مكتب محاماة أميركي واحد من صنف المكاتب التي تملك نفوذاً في أروقة الكونغرس الأميركي، وذلك بدل حالة التشتت، حيث كل مصرف يريد توكيل مكتب محاماة، بينما يجب أن يكون الأمر حصرياً بين الدولة اللبنانية ممثلة بمصرف لبنان أو وزارة المال، من أجل توحيد الخطاب اللبناني والمطالب اللبنانية التي يمكن الأخذ بها في المراسيم التطبيقية، وتحديداً لجهة عدم توسيع دائرة من يطبَّق عليهم القانون ورفض الإجراءات الاستباقية التي يمكن أن تصيب أحياناً بعض الأشخاص بطريق الخطأ.. لكن بعد «خراب البصرة.. وبيوتهم»!
والجدير ذكره أنه لدى مراجعة المصرف الذي أقفل حسابات النواب الثلاثة كان الجواب أن محامي المصرف في الولايات المتحدة هو الذي أعطانا الأمر بالقيام بهذه الخطوة!
رابعاً، وهذه النقطة برسم كل القيادات، وخصوصاً الرئيس نبيه بري، ففي ضوء ما أقدمت عليه بعض المصارف، بدأ بعض رجال الأعمال الذين لا يقيمون وزناً سوى لمصالحهم، بفتح قنوات اتصال مباشرة مع الأميركيين، سواء من خلال السفارة في بيروت، أو بعض السفارات ورجال الأعمال في الخارج (قبرص أو إنكلترا) من أجل تقديم أوراق اعتمادهم.. وغالباً ما تكون على شكل وشايات برجال أعمال ينافسونهم في القطاعات التي ينشطون فيها، الأمر الذي يمكن أن يترك تداعيات لا حصر لها.
خامساً، لقد كان السيد حسن نصرالله حاسماً بتأكيده أنه «لا يوجد ودائع لحزب الله في مصارف العالم، ولا حتى في المصارف اللبنانية. لذلك، لا داعي للقلق لا في المصرف المركزي ولا في سواه، كما أن الحزب ليس شريكاً في أي مشاريع تجارية أو شركات لبنانية أو غير لبنانية». هذه الرسالة التي يُفترض أن تكون قد بلغت مسامع المؤسسات الأميركية المعنية، كانت ترجمتها المباشرة بالموقف الأخير الذي أصدره حاكم مصرف لبنان المركزي رياض سلامة وقال فيه أن لا إشكالية إذا تعامل «حزب الله» بالليرة اللبنانية «لأنها عملة لبنانية خاضعة للقوانين اللبنانية»، وهو أعطى تعليمات واضحة بهذا الصدد للمصارف بحصر دائرة العقوبات بالدولار الأميركي لأن القرار صادر عن الإدارة الأميركية، وهناك مصارف تملك هوامش أكثر من غيرها، علماً أن التعامل باليورو الأوروبي أو اليوان الصيني أو أية عملة أخرى غير الدولار، لا يستوجب فرض أية عقوبات سواء داخل لبنان أو خارجه.
ولعل قيمة هذا الأمر تكمن في وجود مؤسسات تربوية واجتماعية واقتصادية تعمل ضمن دائرة «حزب الله» مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، وهي معنية بالإيفاء بالتزاماتها سواء بتوطين الرواتب، أو بمعاملات التأمين أو الكفالات، وهذا يستوجب منها اعتماد العملة الوطنية في تعاملاتها لتفادي الوقوع في فخ التفسيرات والاجتهادات التي يمكن أن ترتد عليها سلباً.
سادساً، لا بد من تشكيل خلية أزمة سياسية ـ إعلامية لا تكتفي بالتضامن الكلامي مع قناة «المنار»، بل تأخذ على عاتقها تخفيف ما يمكن أن تتعرض له من إجراءات، خصوصاً أن القانون الأميركي وضعها بالإسم على لائحة الإرهاب، وبات بإمكان السلطات الأميركية ملاحقة كل من يعمل معها بما في ذلك محطات الأقمار الاصطناعية، فضلاً عن إشكالية رواتب العاملين فيها.