حبس العالم أنفاسه أمس عندما ترجمت القوات التركية ما قاله رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو الأحد الماضي، بأنه أصدر تعليمات بالرد الفوري على أي تطور في الجانب السوري من شأنه أن يُشكّل تهديداً لأمن الحدود، فقامت مقاتلتان تركيتان من طراز «اف 16» بإسقاط قاذفة روسية من طراز «سوخوي 24» ليعلن الرئيس التركي رجب طيب اردوغان لاحقاً أن على الجميع «احترام حقنا في حماية حدودنا»، وذلك في رسالة واضحة بأن أنقرة عازمة على إعادة ترسيم الحدود بعد الهزة التي أطلقها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بتدخله في سوريا.

إسقاط الطائرة الروسية لن يكون حدثاً بلا توابع ارتدادية، كما أنه لم يكن حدثاً منقطعاً عن سلسلة أحداث سابقة، فالطائرات الحربية الروسية اخترقت غير مرة الأجواء التركية، ووجهت لها تحذيرات ميدانية فضلاً عن تحذيرات ديبلوماسية من أنقرة لموسكو بوجوب عدم التمادي في خرق السيادة التركية، كما أن تركيا تعمل بالتآزر مع الولايات المتحدة على منطقة خالية من تنظيم «داعش» على الحدود السورية ـ التركية، ما يعني أن صداماً كان لا بد أن يقع مع الطائرات الروسية التي تعمل في المنطقة ذاتها.

وبالنسبة لموسكو، فإن القضية أكبر من مجرد إسقاط طائرة حربية روسية، فهو يطال مجمل العملية الروسية في سوريا التي تغولّت إلى حد توجيه رسائل لكل أعضاء التحالف الدولي الذي ينادي برحيل بشار الأسد بهدف حل الأزمة الدموية في سوريا، فهي تكسر شوكة هذا التغوّل وتبلغه أن ثمّة قوى أخرى في الطرف الآخر. 

وتركيا ليست وحيدة، فهي العضو البارز في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وقد طلبت اجتماعاً استثنائياً عقد ليل أمس، وهذا طلب يؤكد أن الأتراك قرروا أن يمشوا على الحبل المشدود بأعصاب قوية استعداداً لأي تطور، أو ردة فعل روسية، إذ إن موسكو ما زالت تسوّق لطائرتها السوخوي 24 على أنها كانت تنفذ عملياتها في الأجواء السورية المستباحة أصلاً من الجميع، فيما أكدت أنقرة وواشنطن أن الطائرة الروسية اخترقت الأجواء التركية، وتلقت 10 تحذيرات خلال خمس دقائق، قبل أن تقوم طائرات اف 16 تركية بإسقاطها، لتحولها كتلة لهب تسقط في الأراضي السورية.

وفيما أكدت موسكو أن أحد الطيارين قُتل بعدما هبط بمظلته، وأن مصير الطيار الثاني مجهول، أظهر تسجيل فيديو أرسلته جماعة معارضة سورية لوكالة «رويترز» أمس ما يبدو أنه أحد الطيارين على الأرض من دون حراك ومصاب بجروح بالغة، وقال مسؤول من الجماعة المعارضة إنه مات.

كما أعلنت هيئة الأركان الروسية أن جندياً روسياً ثانياً قُتل خلال عملية إنقاذ فاشلة لطياري المقاتلة الروسية، وذلك حين تعرضت إحدى مروحيات المجموعة الروسية لإطلاق نار.

وقالت هيئة الأركان الروسية إن طياري المقاتلة تمكنا من الهبوط بمظلتيهما قبل التحطم وقتل إحدهما قبل أن يصل الى الأرض، مؤكدة معلومات أوردتها مصادر قريبة من المعارضة السورية. وكان مسؤول حكومي تركي أعلن قبلها أن الطيارين على قيد الحياة وأن بلاده تحاول استعادتهما.

ولم تدلِ القيادة العسكرية الروسية بأي معلومات عن مصير الطيار الثاني، لكنها أوضحت أن أحد جنودها قُتل في سوريا خلال عملية شاركت فيها مروحيات في محاولة لإنقاذ طاقم السوخوي.

وأطلع رئيس أركان الجيش التركي الرئيس رجب طيب اردوغان على تطورات الوضع. وقالت الرئاسة التركية إن «طائرة روسية من طراز «سوخوي 24« أسقطت طبقاً لقواعد الاشتباك بعدما حلقت في المجال الجوي التركي على الرغم من التحذيرات». وقال اردوغان في كلمة ألقاها في أنقرة: «على الرغم من أنه تم تحذيرها عشر مرات في خمس دقائق، فإنها كانت متجهة صوب حدودنا وأصرت على مواصلة انتهاكها». وأضاف أن هذه التصرفات تتفق تماماً وقواعد الاشتباك التركية. وتابع «ينبغي ألا يشك أحد في أننا بذلنا أقصى ما في وسعنا لتفادي هذا الحادث الأخير، ولكن يجب على الجميع احترام حق تركيا في الدفاع عن حدودها». وأوضح أيضاً أن تركيا وبالتعاون مع حلفائها ستنشئ قريباً «منطقة إنسانية آمنة» بين جرابلس السورية وشاطئ المتوسط.

وقال اردوغان إن تركيا ستظل داعمة لإخوانها المظلومين في سوريا. وأضاف أن روسيا تدعي ضرب «داعش» ولكنها ترتكب مجازر ضد التركمان، مضيفاً: «أقول لنظام الأسد وكل من يقوم بحمايته إن منطقة جبل التركمان لا يوجد بها «داعش» أو إرهابيون». وأكد رئيس الوزراء التركي، تعقيباً على إسقاط الطائرة السورية، أن من «واجب» تركيا القيام بكل ما بوسعها لحماية حدودها. وقال: «يجب أن يعلم الجميع أن من حقنا المعترف به دولياً ومن واجبنا الوطني اتخاذ جميع التدابير اللازمة ضد كل من ينتهك مجالنا الجوي أو حدودنا».

وذكرت مصادر ديبلوماسية تركية أن أنقرة أبلغت الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون والدول الخمس دائمة العضوية بمجلس الأمن كتابة بإسقاط طائرة حربية روسية. واجتمع نائب وكيل وزارة الخارجية التركية بالفعل مع القائم بالأعمال الروسي والأميركي والبريطاني وكذلك السفير الفرنسي لهذه الغاية.

وأكدت وزارة الدفاع الروسية في بيان أن «طائرة سوخوي 24 تابعة لسلاح الجو الروسي في سوريا تحطمت في الأراضي السورية بسبب إطلاق نار من الأرض». وأضافت أن الطائرة «كانت موجودة في المجال الجوي السوري حصراً«. 

وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مستهل لقائه في سوتشي (جنوب روسيا) مع العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني «بالتأكيد سنحلل كل ما جرى. والأحداث المأسوية التي وقعت اليوم ستخلّف عواقب خطيرة على العلاقات الروسية ـ التركية». واعتبر أن «الخسارة اليوم هي بمثابة طعنة في الظهر وجهت الينا من قبل المتآمرين مع الإرهابيين». وأكد أن المقاتلة الروسية «سوخوي 24» لم تكن تهدد تركيا، مشيراً الى أنها أصيبت في الأراضي السورية على بعد كيلومتر من الحدود التركية.

وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلغاء زيارته الرسمية لتركيا التي كانت مقررة اليوم، وقال في تصريحات نقلها التلفزيون «قررنا إلغاء اللقاء الذي كان مقرراً غداً (اليوم) في اسطنبول مع وزير الخارجية التركي»، لافتاً الى «التهديد الإرهابي المتنامي» لتركيا. وأضاف أن روسيا تنصح مواطنيها بعدم السفر الى تركيا.

كما أعلنت سفارة تركيا لدى روسيا لوكالة «فرانس برس« استدعاء الملحق العسكري التركي الى وزارة الدفاع الروسية.

وقال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية إن «حلفاءنا الأتراك أبلغونا أن مقاتلاتهم أسقطت طائرة مقاتلة قرب الحدود السورية بعدما انتهكت الأجواء التركية الثلاثاء». وأضاف: «يمكننا أن نؤكد أن الولايات المتحدة غير معنية بهذا الحادث».

وعقد «الناتو» اجتماعاً استثنائياً ليل أمس بطلب من أنقرة لمناقشة التطورات، ودعا الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ الى «الهدوء ونزع فتيل التوتر» إثر إسقاط الجيش التركي لمقاتلة روسية على الحدود السورية.

وصرح ستولتنبرغ إثر اجتماع طارئ للحلف في بروكسل ضم ممثلي الدول الـ28 الأعضاء فيه، «أدعو الى الهدوء ونزع فتيل التوتر».

وأضاف «كما كررنا بوضوح، نحن متضامنون مع تركيا وندعم وحدة أراضي حليفنا التركي داخل الحلف الأطلسي».

وتابع في رد مقتضب على الصحافيين «إنه حادث خطير. يجب أن نتفادى خروج الوضع عن أي سيطرة».

وكانت مقاتلات روسية دخلت المجال الجوي التركي في حادثين منفصلين في تشرين الأول ما دفع بأنقرة الى استدعاء السفير الروسي مرتين للاحتجاج على انتهاك مجالها الجوي مرتين.

وفيما كانت المروحيات الروسية تحلق فوق المنطقة التي سقطت فيها الـ»سوخوي 24» تمكن ثوار الفرقة الساحلية الأولى التابعة لـ»الجيش الحر» من إسقاط إحداها بواسطة صاروخ حراري من طراز «تاو». وبحسب ناشطين، فإن الثوار استهدفوا المروحية الروسية عندما كانت تحلق على علو منخفض بحثاً عن طاقم الـ»سوخوي»، ما أدى إلى سقوطها في المنطقة الواقعة بين بلدتي كفرية والنوبة.

ونقل إعلام النظام عن مصدر عسكري ميداني قوله إن «وحدة من قوات الجيش العربي السوري أنقذت 12 مقاتلاً من القوات الروسية حوصروا إثر هبوط مروحية روسية بشكل اضطراري قرب جبل النوبة في ريف اللاذقية الشمالي».

وقال المصدر إن «المقاتلين الروس كانوا على متن المروحية التي كانت تتولى البحث عن الطيارين اللذين كانا في المقاتلة التي أسقطتها تركيا، قبل أن تضطر المروحية للهبوط بشكل اضطراري في منطقة سد برادون حيث حاصرها المسلحون وحاولوا أسر المقاتلين الروس». وأوضح المصدر أن «القوات السورية تحركت من قرية كفرية القريبة، وتمكنت من تأمين وصول المقاتلين الروس إلى مناطق آمنة قبل أن تقوم طائرة حربية روسية بقصف مكان هبوط المروحية وتدمرها».

في المواقف وتعليقاً على حادثة إسقاط الأتراك لمقاتلة جوية روسية قال الرئيس الأميركي باراك أوباما «لا نزال نتلقى تفاصيل عما جرى. لم تكتمل لدينا كافة المعلومات حتى اللحظة. سنتحدث طبعاً الى الرئيس التركي خلال الأيام المقبلة. وأود أن أشدد على أن تركيا لها كامل الحق في الدفاع عن أراضيها ومجالها الجوي. لكن بالطبع نحن نحرص على أن يتحدث الطرفان التركي والروسي بشأن ما جرى وأن يتفاديا أي تصعيد». 

واتفق الرئيسان الاميركي والتركي على خفض التوتر.