وجد اللبنانيون أنفسهم أمس بين دعوتين صريحتين إحداهما تحثّهم على حشد أنفسهم «قبائل وعشائر» وتجاوز سلطان الدولة والقفز فوق سلطتها والانخراط في حروب عبثية ومعارك دموية فتنوية تبدأ من الجرود ولا تحدّها حدود تحت طائل التهويل عليهم بأنّ سيف الإرهاب قادم لجزّ رقابهم إن هم لم يستميتوا في القتال إلى جانب محور «الممانعة» المتهاوي من دمشق إلى طهران كما عبّر الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله أمس، بينما الدعوة الأخرى أتت من الرئيس سعد الحريري لتصوّب بوصلة المعادلات الوطنية ولتدعو إلى تنقيتها من أي «حشد» مذهبي وطائفي إعلاءً لسلطة الدولة الخالصة ولمفهوم الاصطفاف خلف درعها الحامي لكل أبناء الوطن في وجه «قوى الضلال والإرهاب» سواءً الداعشي أو الأسدي منها، من منطلق التشديد على أنّ تحصين الساحة الداخلية لا يكون بالانجرار وراء مزيد من المشاريع الانتحارية بل في الالتحاق بركب الدولة والعودة إلى الوطن حيث لا صوت يعلو فوق صوت المؤسسات الشرعية ولا «معادلة ذهبية» تخرج عن دائرة الإجماع الوطني. ولسان حال الحريري يقول لـ«حزب الله» في هذا المجال: لم يفُت الأوان بعد، عودوا إلى لبنان والدولة والمصالحة الوطنية.. وحدتنا هي الضامن الوحيد والأكيد لنا ولكم.

إذاً، وبُعيد ما تضمّنه خطاب نصرالله أمس لمناسبة «عيد التحرير والمقاومة» من عناوين لم تخلُ من عبارات ومفاهيم تفرز وتصنّف اللبنانيين بين بعض وطني يوالي «حزب الله» وبعض عميل يعارض سياساته، ملوّحاً بسيف «داعش» تهديداً ووعيداً طال بشكل عام الدولة وكل أبنائها، وبشكل خاص عرسال وجرودها، ردّ الرئيس الحريري على هذا الخطاب (ص2) وما اعتراه من «مغالطات وتهديدات» بالإعراب عن أسفه لكون البعض يحاول أن يحتكر تضحيات اللبنانيين في عيد التحرير «ويتجاوز حدود الإجماع إلى خطاب التخوين والمكابرة»، وقال: «نحن في تيار المستقبل نعلن على الملأ أنّ الدولة اللبنانية ومؤسساتها الشرعية هي ضمانتنا وخيارنا وملاذنا، وأي كلام عن ضمانات أخرى أمر موهوم ومرفوض وخوض عبثي في مشاريع انتحارية»، مشدداً على أنّ «الدفاع عن الأرض والسيادة والكرامة ليست مسؤولية «حزب الله» لا في عرسال ولا في جرودها ولا في أي مكان آخر، وموقفنا من داعش وقوى الضلال والارهاب لا يحتاج لشهادة حسن سلوك من أحد».

وفي حين جزم بأنّ «معادلة الحشد الشعبي لا مكان لها في لبنان»، سأل الحريري: «إلى أية هاوية يريدون أخذ لبنان؟ وأية حرب يطلبون من الطائفة الشيعية وأبناء العشائر في بعلبك - الهرمل الانخراط فيها؟»، وأردف: «منذ سنوات ونحن ننادي بوضع استراتيجية وطنية تحمي لبنان من الاٍرهاب والحرائق المحيطة وتعترف للجيش والقوى الأمنية الشرعية بالحقوق الحصرية في حماية الأمن الوطني، ولكنهم في كل مرة يبذلون الجهد تلو الجهد لتعطيل هذه المهمة الوطنية»، مشيراً إلى أنّ المعركة التي يزجّون اللبنانيين بها هي «لا دينية ولا أخلاقية ولا وطنية» دفاعاً عن نظام الأسد الذي «يغرق أمام أعينهم وينسحب لمصلحة «داعش» في مؤامرة مكشوفة»، مع تأكيده في الوقت عينه على أنّ «داعش» والأسد سيلقيان المصير المحتوم نفسه.

وعن الحرب الوجودية التي تحدّث عنها نصرالله، قال الحريري: «ما يعنينا هو وجود لبنان وسلامة العيش المشترك بين أبنائه وخصوصاً الحياة الواحدة بين السنّة والشيعة»، لافتاً الانتباه إلى أنّ الطريق الوحيد لدرء الفتنة وتصحيح الخلل الكبير في العلاقات بين المسلمين يكون بأن «نعود إلى الدولة ونتوَحد على مرجعيتها ونقف جميعاً خلف الجيش والقوى الشرعية في حماية الحدود ومواجهة مخاطر الارهاب من أي جهة أتى (...) واجتماعنا هو السبيل لفتح الأبواب أمام المصالحات الحقيقية وإنهاء الشغور في موقع الرئاسة وإعادة الاعتبار للنظام العام».

سليمان

تزامناً ولمناسبة ذكرى الشغور السنوية المشؤومة، خصّ الرئيس ميشال سليمان «المستقبل» بحديث (ص 4) شدد فيه على أنّ «الساكت عن الشغور شيطان أخرس» محذراً من أنّ خطورة الفراغ في سدة الرئاسة الأولى تطال جميع اللبنانيين وليس طائفة دون سواها. وقال: «كما وقفتُ بالمرصاد لمواجهة «النظام الأورثوذكسي البغيض»، سأقف اليوم في مواجهة (المؤتمر) «التأسيسي الخطير» الذي يأخذ لبنان إلى خيارات تريدها إسرائيل وتطمح إليها القوى الظلاميّة أمثال داعش»، معرباً عن أسفه «لأن يحتل الفراغ الجزء الأكبر من المساحة الاعلامية في 25 أيار، وهو اليوم الذي تحرّر فيه لبنان من العدو الاسرائيلي»، وأضاف: «إنّ تحرّر اللبنانيين الحقيقي يكون لحظة تتحرّر الأدمغة من الأنانيّات لمصلحة لبنان وعدم تكرار التجارب الفاشلة التي لا تعود على الوطن إلّا بالكوارث».

وإذ جدد دعوة كافة الأفرقاء إلى «العودة للتقيّد بإعلان بعبدا الكفيل بتحييد لبنان عن صراعات المحاور والمُسهِّل الأساس لعودة الديمقراطية وانتخاب الرئيس بقرار لبناني لبناني»، شدد سليمان على عدم جواز «تمييع تضحيات الجيش في بازار المحاصصة ولا في التهديد والوعيد والتهويل باستخدام الشارع»، داعياً إلى «ترك قيادة الجيش تتصرف وفقاً للملاءمة الوطنية والقانون وليس تنفيذاً لرغبات هذا ومتطلبات ذاك». 

وعن مسألة التجاذب السياسي الحاصل حول التعيينات العسكرية، أجاب سليمان: «انتخاب الرئيس هو المفتاح السحريّ لحلحلة كبريات المشكلات التي تتجاذب عليها القوى السياسية حالياً»، طارحاً جملة أسئلة في المقابل: «كيف يجوز ألا يكون للرئيس العتيد كلمة أو رأي في اختيار قائد الجيش؟ وكيف يُمكن للقوى المسيحية إقناع الرأي العام بأهمية دور الرئيس وهو القائد الأعلى للقوات المسلحة إن مشت الأمور الكبرى على طبيعتها في ظلّ الفراغ الرئاسي؟ وهل بات للّبنانيين «رئيس ظلّ« يقرر مصيرهم؟».