لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم التاسع والسبعين بعد المئتين على التوالي.
لبنان بلا فعالية نيابية منذ ست سنوات، ولبنان بلا حكومة منذ أسبوعين.. والحبل على الجرار.
برغم هذا السقف السياسي المثقوب، وما يمكن أن يستدرج من مخاطر على الاستقرار، قدّم الجيش اللبناني، أمس، نموذجًا قتاليًّا عاليًا جعله للمرة الأولى، في موقع المبادرة والفعل حماية لمواقعه ولأهالي قرى الفاكهة ورأس بعلبك والقاع، في مواجهة الخطر المتأتي عبر الحدود الشرقية، وتحديدًا في منطقة عرسال ورأس بعلبك.
هذا النموذج بما فرضه من قواعد اشتباك جديدة مع المجموعات الإرهابية، «بات يستوجب حماية سياسية وطنية شاملة وجهوزية أمنية وعسكرية عالية، خصوصًا أن هذه المعركة مفتوحة ولا سقف زمنيًّا لها ولا ساحة حصرية لها ولا وصفات جاهزة لمواجهتها»، على حد تعبير مرجع أمني واسع الاطلاع.
واللافت للانتباه في هذه المعركة أنها تأتي على مسافة عشرة أيام من تحذير الأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله من مواجهة محتمة مع المجموعات الإرهابية بعد انتهاء عاصفة الثلج، كما أنها تأتي في سياق خطة عسكرية وضعتها قيادة الجيش، تتضمن القيام بعدد من العمليات الاستباقية، كلما توافرت معطياتها، في إطار المعركة المفتوحة مع الإرهاب.
ووجَّه قائد الجيش العماد جان قهوجي تحية لكل العسكريين المنتشرين على طول الحدود، وخصَّ بالذكر الوحدات العسكرية التي حققت انجازًا نوعيًّا كبيرًا، أمس، في جرود رأس بعلبك. وقال لـ «السفير» إن جيشنا هو جيش الشرف والتضحية والفداء، وهذه العملية (في جرود رأس بعلبك) تشكل انجازًا جديدًا يضاف إلى سجل العسكريين البواسل، «فقد أثبت جيشنا أنه قادر على تحقيق انتصارات وخوض معارك قلما تمكنت أقوى جيوش العالم من القيام بها، وها هو، بالمتوفر له من سلاح وبلحمه الحي، يخوض أشرس معركة ضد الإرهاب».
وشدَّد قهوجي على جهوزية الجيش في مواجهة الاحتمالات كافة، وقال: «لن نترك الإرهاب التكفيري يهزمنا، ومعركتنا مفتوحة معه، ولبنان لن يسقط ما دام الجيش يتقدم بخطى واثقة ويقف بحزم للدفاع عنها ويقدم التضحيات تلو التضحيات».
أضاف ان لبنان «يواجه الإرهاب والتكفير، والجيش هو الضامن لاستقرار البلد ورد الخطر عنه، وكما سبق وقلت لكل الناس إن لبنان لن يكون بيئة للإرهاب، والجيش لن يبقى الجيش الرادع فقط، بل السيف القاطع».
وقالت مصادر عسكرية لـ «السفير» إن قائد الجيش أدار منذ الساعات الأولى من فجر أمس عملية عسكرية محترفة وبالغة الدقة، في جرود رأس بعلبك تمكن خلالها الفوج الرابع في الجيش من احتلال تَلَّتَي صدر الجرش وحرف الجرش شمال شرق التلة الحمراء، وذلك بعد أن مهد له سلاح المدفعية والطيران المروحي بدك مواقع المجموعات الإرهابية، وتمكن الجيش من احتلال التلتَين في وقت قياسي، متقدمًا عن مواقعه ما يزيد عن خمسماية متر في عمق الجرود.
وأشارت المصادر إلى أن الجيش استخدم قوة نارية هائلة باغتت الإرهابيين الذين فروا أمام الوحدات العسكرية في اتجاه الجرود السورية، مخلفين وراءهم العديد من الإصابات وكمية كبيرة من العتاد والأسلحة والمتفجرات والعبوات والأحزمة الناسفة (تبين أن إحدى التلتَين كانت مزنرة بالمتفجرات بكاملها).
وفيما تردد أن خمسة عسكريين بينهم ضابط قد أصيبوا بجراح نتيجة استهداف آلية عسكرية بقذيفة صاروخية، أكدت مديرية التوجيه إصابة ثلاثة عسكريين بجراح غير خطرة.
وعملت الوحدات العسكرية بعد السيطرة على تلتَي صدر الجرش وحرف الجرش في جرود رأس بعلبك على تثبيت تمركزها فيهما بالتزامن مع استهداف تحصينات المجموعات الإرهابية ونقاط تجمعها وطرق تحركاتها بالمدفعية والصواريخ، ما أدى إلى تحقيق إصابات أكيدة في صفوفها بين قتيل وجريح.
وأكدت المصادر على الأهمية الإستراتيجية للتلتَين من خلال الآتي:
• حماية مواقع الجيش الخلفية، لا سيما تلك التي كانت عرضة في الأيام الأخيرة لمحاولات تسلل من قبل تلك المجموعات.
• السيطرة النارية المباشرة على مواقع المجموعات الإرهابية وخطوط إمدادها ما بين الجردَين الأوسط والأعلى، الأمر الذي يحد من حرية حركتها ويجعل المبادرة بيد الجيش.
• خطوة أساسية على طريق ربط الجرد المنخفض من السلسلة الشرقية وهو يمتد من جرد عرسال بعد حاجز وادي حميد، حيث يتمركز الجيش في نقطة كبيرة ومحصنة، في اتجاه جرد الفاكهة ورأس بعلبك والقاع.
• إن سيطرة الجيش على «الجرد الواطي» أو «البرية» (بتعبير أهل المنطقة) تسهل وصول أهالي عرسال إلى جزء كبير من أرزاقهم ومزارعهم القريبة من جهة، وتبعد شبح تسلل المسلحين نحو قرى السهل من جهة ثانية، وتحصن مواقع الجيش الذي يصبح مسيطرًا بالنار على جزء كبير من منطقة «سهل الوسعة» في جرد عرسال، وهي التي تفصل ما بين الجردَين الأوسط والعالي.
• ثمة رسالة إلى الداخل اللبناني مفادها أن الجيش يملك الإرادة الصلبة لقتال المجموعات الإرهابية والانتصار عليها، ما يقتضي الالتفاف أكثر من أي وقت مضى حول المؤسسة العسكرية من كل فئات الشعب اللبناني.
• ثمة رسالة إلى الخارج للإفراج عن السلاح الموعود به الجيش، «فهو أثبت أنه يملك الإرادة القتالية والعزم، ولكن من المهم أن يتوفر له السلاح النوعي الذي يمكنه من خوض هذه الحرب والانتصار فيها، ولو توفر له هذا السلاح لكان قادرًا على القيام بعمليات نوعية أكبر من شأنها أن تقلب الواقع القائم في الجرود رأسًا على عقب» على حد تعبير مصادر عسكرية.
يُذكَر أن العملية العسكرية تزامنت مع استنفار شامل للجيش في كل نقاط تمركزه في المنطقة خصوصًا أنه تم رصد تحركات مريبة في محيط عرسال (مخيمات النازحين السوريين).
وقالت مصادر أمنية في المنطقة لـ «السفير» إن الحياة كانت شبه طبيعية في المنطقة كلها ولم تتأثر حركة المدارس والطرق والمتاجر، كما ان مركز الأمن العام المستحدَث في بلدة عرسال شهد إقبالًا كثيفًا للنازحين السوريين الذين يريدون جعل إقامتهم على الأراضي اللبنانية قانونية، ومعظمهم جاؤوا من المخيمات الواقعة في جرد عرسال (بعد وادي حميد)، ولم يتمكن المركز من استيعاب أكثر من 400 حالة تمت تسوية أوضاعها، وهذا المسار سيستمر وصولًا إلى إقفال ملف النزوح غير الشرعي في كل هذه المنطقة، وهو الأمر الذي يتيح لمن حصلوا على إقامات التنقل بحرية على الأراضي اللبنانية.
يُذكَر أن إحصاءات الأمن العام ووزارة الداخلية تفيد بوجود نحو سبعين ألف نازح في منطقة عرسال وجرودها