لبنان بلا رئيس للجمهورية لليوم الثاني والخمسين بعد المئتين على التوالي.
لولا مرض الانقسام السياسي والمذهبي في الداخل اللبناني، ولولا الأزمة السورية المفتوحة على مصراعيها، لكانت عبارات السيد حسن نصرالله الموجهة إلى الإسرائيليين، أمس، قد جعلت بلداً صغيراً مثل لبنان ركيزة استنهاض ومزيد من الشعور بالثقة والكرامة عربياً، خصوصا في ظل انهماك الساحات بقضاياها «الصغيرة» وحروبها الأهلية «الكبيرة»!
ولولا تلك الرصاصات العشوائية والقذائف الصاروخية التي شوّهت مهرجان تكريم ثلة من الشهداء المقاومين، لكان «مهرجان النصر الثالث» قد دخل كل بيوت اللبنانيين، من خلال العبارات والهتافات والصور.. وخصوصا تلك الدموع التي ذرفها السيد نصرالله، للمرة الأولى على المنبر، منذ تاريخ تبوئه سدة الأمانة العامة وقيادة المقاومة قبل ثلاثة وعشرين عاماً.
كان مزاج المشاركين في مهرجان «مجمع سيد الشهداء» في الضاحية الجنوبية لبيروت، يشي باحتفالية تشبه مهرجان التحرير في بنت جبيل في العام 2000 ومهرجان الانتصار في ملعب الراية في أيلول 2006. العناصر المشتركة بين الأناشيد والمسرح والصور وشعار «على طريق القدس» وهتافات الجمهور المتكررة «أبو هادي» والتصفيق الذي لم يهدأ، بيّنت كلها أن مهرجان تكريم شهداء القنيطرة، صار مهرجان انتصار وليس مجلس عزاء.
وحسناً فعل السيد نصرالله بأن عاد إلى خطاب التأسيس والى بيانات المقاومة الأولى في بداية الثمانينيات، عندما ختم خطابه بالعبارة الشهيرة: «بندقية المقاومة هي الرد.. وقوافل الشهداء تصنع النصر».
استعاد بعض المشاركين لحظة اعتلاء نصرالله المنبر أمام مقر قيادة «الشورى» في حارة حريك في شتاء العام 1992، مخاطباً الإسرائيليين أنهم ارتكبوا أكبر حماقة في التاريخ بقرار تنفيذ جريمة اغتيال الأمين العام الشهيد عباس الموسوي وبعض أفراد عائلته.
ومن منبر شهداء القنيطرة، الذين سقطوا بطريقة الاغتيال نفسها، خاطب نصرالله في ذروة حضوره ومعنوياته وقوته الإسرائيليين قائلا انكم بفعلتكم الجبانة، جعلتم المقاومة تكسر كل المعادلات منذ الآن فصاعداً. نحن لسنا هواة حرب ولا نريدها، لكن إذا فُرضت علينا فنحن لها.
وأضاف: قواعد الاشتباك انتهت «ففي مواجهة العدوان والاغتيال، لا قواعد اشتباك، ولم نعد نعترف بتفكيك الساحات والميادين، ومن حقنا الشرعي والأخلاقي والإنساني والقانوني ـــ وحتى في القانون الدولي لمن يريد أن يناقشنا بالقانون ـــ أن نواجه العدوان أياً كان، في أي زمان، وكيفما كان.. وقصة ضربتك هنا ترد عليّ هنا، انتهت.. ضربتني بهذه الطريقة ترد عليّ بهذه الطريقة، هذه انتهت أيضا. عندما تعتدي، أينما كان، وكيفما كان، وفي أي وقت كان، من حق المقاومة أن ترد أينما كان، وكيفما كان، وفي أي مكان. انتهينا من هذا الموضوع».
هذه النقطة على السطر في نهاية عبارة مسبوكة في كل حرف من حروفها وليس كلماتها، نزلت كالصاعقة على الإسرائيليين الذين فهموها من دون أية استعانة بصديق أو محلل، لا بل شكلت صدمة أيضا لعدد من الدول المعنية بالواقع الحدودي من الناقورة حتى القنيطرة، وخصوصا تلك المشاركة في قوات «اليونيفيل» (الجنوب اللبناني) و»الاندوف» (الجولان السوري)، لأنها تحمل في طياتها معادلة جديدة مفتوحة لا أحد يستطيع أن يتكهن بطبيعتها منذ الآن، والأهم من ذلك أنها تنسجم مع معادلة وحدة الساحات والجبهات وترابطها والتي كان استهل «السيد» خطابه بالتأكيد عليها مرة جديدة.
وإذا كان البعض قد فهم من هذه المعادلة الجديدة أنها «تهدد القرار 1701 وكل قواعد الاشتباك التي كرّستها حرب تموز 2006»، فإن التدقيق في مضمونها يشي برفع الصوت عاليا بأن «الدول» الحريصة على أمن إسرائيل أولاً، عليها أن تتحمل مسؤوليتها في منع ارتكاب حماقة جديدة كتلك التي ارتكبها رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في القنيطرة.
وليس خافياً على أحد أن أسباب ذهاب «حزب الله» إلى ساحة القنيطرة، صارت موجبة له أكثر من أي وقت مضى بعد العملية الإسرائيلية الأخيرة، خصوصا أن المقاومة كانت قد استشعرت من وراء تسهيلات الجيش الإسرائيلي العلنية لـ «جبهة النصرة» للإمساك بنحو 80 في المئة من مواقع الجيش السوري على طول خط الجبهة الأمامي، محاولة مكشوفة للالتفاف على المقاومة عبر المثلث السوري ـــ الفلسطيني ـــ اللبناني، ومن هنا، كان قرار تكليف مجموعة من الكادرات في المقاومة، وبينهم المجموعة التي سقطت في عملية القنيطرة، بالتحضير لعمل نوعي كبير من أجل كسر المنطقة العازلة التي يحاول «جيش لحد السوري» (أحد أذرع «القاعدة») تثبيتها ميدانياً.
ولعل الإسرائيلي قد أدرك مبكراً أن هذه المجموعة المقاومة مع غيرها من المجموعات، إذا نجحت في مهمتها، ستجعل المقاومة للمرة الأولى على تماس مباشر معه في تلك الجبهة، فكان القرار الإسرائيلي بتوجيه الضربة (التدخل المباشر الأول من نوعه مع «النصرة» ضد «حزب الله»)، من دون أي احتساب دقيق لنتائجها وتداعياتها اللاحقة، وفي المقابل، تمكنت المقاومة من تحويل الخسارة بالدم إلى ربح استراتيجي في الصراع المفتوح مع إسرائيل «عدونا اليوم.. وغدا»، كما ردد السيد نصرالله في خطابه النوعي الذي كان يصعب تفكيكه أو تجزئته من أوله حتى آخره.
وبدا واضحاً أنه باستثناء الإشارة ـــ التحية للجيش اللبناني، واعتبار شهادة جنوده في مواجهة الجماعات التكفيرية بمستوى شهادة المقاومين ضد إسرائيل و «أعوانها التكفيريين»، قرر السيد نصرالله التحرر من العبء اللبناني، لكي لا يحرج الآخرين في زمن الحوار المفتوح على مصراعيه، ولا يحرج نفسه أيضا بمفردات قد يستخدمها البعض ضد الحزب، مكتفياً بإشارة أن الحزب من قماشة لا تتلقى أي إملاء من أحد، سواء أكانت سوريا أو إيران، بل هو سيد نفسه وقراراته في السياسة والرئاسة.. والميدان..
ونال جمهور المقاومة ما يتجاوز تعطشه. رسالة «السيد» في ختام خطابه كانت واضحة: «من الآن فصاعداً، أي كادر من كوادر حزب الله المقاومين، أي شاب من شباب حزب الله يُقتل غيلة (اغتيالاً) سنحمّل المسؤولية للإسرائيلي وسنعتبر أن من حقنا أن نرد في أي مكان وأي زمان وبالطريقة التي نراها مناسبة»